للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلامنا في وصف تلك العبهرة* الفتانة التي أحلته هذا المحل وبلغت به ما بلغت وكان في رقة لا رقة بعدها، وفي حب لا نهاية وراءه لمحب؛ وخيل إلى أنه يرى الحديث عنها كأنه إحضارها بصورة ما!

وأنفع ما في حديث العاشق عن حبه وألمه أن الكلام يخرجه من حالة الفكر، ويؤنس قلبه بالألفاظ، ويخفف من حركة نفسه بحركة لسانه، ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحرك؛ فتسلبه ألفاظه أكثر معانيه الوهمية، وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة لا في النفس؛ وفي كل ذلك حيلة على النسيان، وتعلل إلى ساعة؛ وهو تدبير من الرحمة بالعاشقين في هذا البلاء الذي يسمى الفراق أو الهجر.

وكان من أعجب ما عجبت له أن صديقًا مر بنا فدعاه صاحبنا وقال وهو يومئ إلي: أنا وفلان هذا مختلفان منذ اليوم؛ لا هو يقيم عذرًا ولا أنا أقيم حجة، وأحسب أن عندك رأيًا فاقض بيننا ...

ويسأله الصديق: ما القضية؟ فيقول وهو يشير إلي:

إن هذا قد تخرق قلبه من الحب فلا يدري من أين يجيء لقلبه برقعة.. وإنه يعشق فلانة الراقصة التي كانت في هذا المسرح، ويزعم لي.. أنها أجمل وأفتن وأحلى من طلعت عليه الشمس، وأنه ليس بين وجهها وبين القمر وجه امرأة أخرى في كل ما يضيء القمر عليه، وأن عينيها مما لا ينسى أبدًا أبدًا أبدًا ... لأن ألحاظها تذوب في الدم وتجري فيه، وأن الشيطان لو أراد مناجزة العفة والزهد في حرب حاسمة بينه وبين أزهد العباد لترك كل حيله وأساليبه وقدم جسمها وفنها..

فيقول له المسؤول: وما رأيك أنت؟

فيجيبه: لو كان عنها صاحيًا لقد صحا. إن المشكلة في الحب أن كل عاشق له قلبه الذي هو قلبه، وحسبها أن مثل هذا هو يصفها؛ وما يدرينا من تصاريف القدر بهذه المسكينة ما عليها مما لها، فلعلها الجمال حكم عليه أن يعذب بقبح الناس، ولعلها السرور قضي عليه أن يسجن في أحزان!

وقلت له: يا صديقي المسكين! أوَكل هذا لها في قلبك؟ فما هذا القلب الذي تحمله وتتعذب به؟


* هي التي جمعت الحسن والجسم والامتلاء وجمال الخلقة من كل ناحية، كهذه التي نحن في وصفها منذ شهرين....

<<  <  ج: ص:  >  >>