فيه من روح لا شرقية ولا غربية ثم أين المصلحون الذين لا يساومون يملك ولا إمارة، ولا يطلبون بالإصلاح غرضًا من أغراض الدنيا أو باطلًا من زخرفها؟ ثم أين أولئك الذين تجعلهم مبادئهم العالية القوية أول ضحاياها، وتروي منهم عرق الثرى الذي يغتذي من بقايا الأجداد لينبت منه الأحفاد؟
إن الجواب على نهضة أمة نهضة ثابتة لا يكون من الكلام وفنونه، بل من مبدأ ثابت مستمر يعمل عمله في نفوس أهلها؛ ولن يكون هذا المبدأ كذلك إلا إذا كان قائمًا على أربعة أركان: إرادة قوية، وخلق عزيز، واستهانة بالحياة، وصبغة خاصة بالأمة.
فأما الإرادة القوية فلا تنقص الشرقيين، وإنما الفضل فيها لساسة الغرب الذين بصرونا بأنفسنا إذ وضعونا مع الأمم الأخرى أمام مرآة واحدة وجعلوا يقولون مع ذلك إننا غير هؤلاء، وإن هذا الإنسان الذي في المرأة غير هذا الفرد الذي فيها ... ولكن أين الخلق؟ وأين العزة القومية؟ وأين العصبية الشرقية؟ وهذه مفاسد أوربا كلها تنصب في أخلاق الشرقيين كما تنصب أقذار مدينة كبيرة في نهر صغير عذب؛ فلا الدين بقي فينا أخلاقًا، ولا الأخلاق بقيت فينا دينًا، وأصبحت الميزة الشرقية فاسدة من كل وجوهها في الروح والذوق، ولم يعد لنا شيء يمكن أن يسمي المدنية الشرقية، وأخذ الحمقى والضعفاء منا يحاولون في إصلاحهم أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد ينتزعونه من المدنية الغربية، ولا يعلمون أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وهم يغتبطون إذا قيل لهم مثلًا: إن مصر قطعة من أوربا؛ ولا يعلمون ما تحت هذه الكلمة من تعطيل المدنية الشرقية، والذهاب بها، وإفسادها، وتعريضها للذم، وتسليط البلاد عليها، مما لا حاجة بنا إلى التبسط في شرحه.
لست أقول إن نهضة الشرق العربي لا أساس لها؛ فإن لها أساسًا من حمية الشباب، وعلم المتعلمين؛ ومن جهل أوربا الذي كشفته الحرب؛ ولكن هذا كله على قوته وكفايته في بعض الأحيان لإقامة الأحداث الكبرى واهتياج العواصف السياسية -لا يحمل ثقل الزمن الممتد، ولا يكفي لأن يكون أساسًا وطيدًا يقوم عليه بناء عدة قرون من الحضارة الشرقية العالية، بل ما أسرعه إلى الهدم والنقض، لو صدمته الأساليب اللينة من الدهاء الأوروبي على اختلافها ... إذا قدر لأوربا أن تفوز بأسلوبها الجديد، أسلوب استعباد الشرق بالصداقة ... على طريقة ادعاء الثعلب للدجاج أنه قد حج وتاب وجاء ليصلي بها ...