والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان: الدين الإسلامي، واللغة العربية؛ وما عداهما فعسى أن لا تكون له قيمة في حكم الزمن الذي لا يقطع بحكمه على شيء إلا بشاهدين من المبدأ والنهاية.
وظاهر أن أغلبية الشرق العربي ومادته العظمى هي التي تدين بالإسلام، وما الإسلام في حقيقته إلا مجموعة أخلاق قوية ترمي إلى شد المجموع من كل جهة، ولعمري إني لأحسب عظماء أمريكا كأنهم مسلمو التاريخ الحديث في معظم أخلاقهم، لولا شيء من الفرق هو الذي لا يمنعهم أن ينحطو إذا هم بلغوا القمة؛ فإن من عجائب الدنيا أن قمة الحضارة الرفيعة هي بعينها مبدأ سقوط الأمم، وهذا عندنا هو السر في أن الدين الإسلامي يكره لأهله أنواع الترف والزينة والاسترخاء، ولا يرى النحت والتصوير والموسيقى والمغالاة فيها وفي الشعر إلا من المكروهات، بل قد يكون فيها ما يحرم إن وجد سبب لتحريمه؛ إذ كانت هذه الفنون في الغالب وفي الطبيعة الإنسانية هي التي تؤدي في نهايتها إلى سقوط أخلاق الأمة؛ بما تستتبعه من أساليب الرفاهية والضعف المتفنن، وما تحدثه للنفس من فنون اللذات والإغراق فيها والاستهتار بها؛ وما سقطت الدولة الرومانية ولا الدولة العربية إلا بكأس وامرأة ووتر، وخيال شعري يفتن في هذه الثلاثة ويزينها.
وإذا كان لا بد للأمة في نهضتها من أن تتغير، فإن رجوعنا إلى الأخلاق الإسلامية الكريمة أعظم ما يصلح لنا من التغير وما نصلح به منه، فلقد بعد ما بيننا وبين بعضها، وانقطع ما بيننا وبين البعض الآخر؛ وإذا نحن نبذنا لخمر، والفجور، والقمار، والكذب، والرياء؛ وإذا أنفنا من التخنث، والتبرج، والاستهتار بالمنكرات، والمبالغة في المجون، والسخف، والرقاعة، وإذا أخذنا في أسباب القوة، واصطنعنا الأخلاق المتينة: من الإرادة، والإقدام، والحمية، وإذا جعلنا لنا صبغة خاصة تميزنا من سوانا، وتدل على أننا أهل روح وخلق -إذا كان ذلك كله فلعمري أي ضير في ذلك كله، وهل تلك إلا الأخلاق الإسلامية الصحيحة، وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غيرها؟
إن من خصائص هذا الدين الأخلاقي أنه صلب فيما لا بد للنفس الإنسانية منه إذا أرادت الكمال الإنساني، ولكنه مرن فيما لا بد منه لأحوال الأزمنة المختلفة مما لا يأتي على أصول الكريمة. وليس يخفى أنه لا يغني غناء الدين شيء في نهضة الأمم الشرقية خاصة، فهو وحده الأصل الراسخ في الدماء