للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأعصاب. ومتى نهض المسلمون وهم مادة الشرق، نهض إخوانهم في الوطن والمنفعة والعادة من أهل الملل الأخرى، واضطروا أن يجانسوهم في أغلب أخلاقهم الاجتماعية، ولا حجر على حريتهم في ذلك إلا كبعض الحجر على حرية المريض إذا أوجرته الدواء المر.

ولما كان المسلمون إخوة بنص دينهم، وكانت مبادئهم واحدة، ومنافعهم واحدة، وكتابهم واحد؛ فلا جرم كان من السهل -لو رجعوا إلى أخلاق دينهم وانتبذوا ما يصدهم عنها- أن يؤلفوا من الشرق كله دولًا متحدة يحسب لها الغرب حسابًا ذا أرقام لا تنتهي..

إن هذا الشرق في حاجة إلى المبادئ والأخلاق، وهي مع ذلك كامنة فيه، ومستقبله كامن فيها؛ غير أنها لا تصلح في الكتب ولا في الفنون، بل في الرجال القائمين عليها. فالقلوب والأدمغة هي أساس النهضة الصحيحة الثابتة، وإذا نحن تأملنا هذه النهضة الراهنة وجدنا أساسها خربًا من جهات كثيرة، ووجدنا المكان الذي لا يملؤه إلا القلب الكبير ليس فيه إلا خيال كاتب من الكتاب والموضع الذي لا يسده إلا الرأس العظيم قد سدته قطعة من صحيفة ...

ولقد تنبأ نبي هذا الدين صلى الله عليه وسلم بهذه الحالة التي انتهى إليها الشرق العربي بإزاء الغرب، فقال لأصحابه يومًا: كيف بكم إذا اجتمع عليكم بنو الأصفر* اجتماع الأكلة على القصاع؟ فقال عمر رضي الله عنه: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله أم من كثرة؟ قال: بل من كثرة، ولكنكم غثاء كغثاء السيل** قد أوهن قلوبكم حب الدنيا.

فوهن القلب بحب الدنيا -على ما ينطوي في هذه العبارة من المعاني المختلفة- هو علة الشرق، ولا دواء لهذه العلة غير الأخلاق، ولا أخلاق بغير الدين الذي هو عمادها، ألا وإن أساس النهضة قد وضع، ولكن بقيت الصخرة الكبرى وستوضع يومًا، وهذا ما اعتقده؛ لأن الغرب يدفع معنا هذه الصخرة؛؛ ليقرها في موضعها من الأساس وهو يحسب أنه يدفعنا نحن إلى الحفرة ليدفعنا فيها..

وهذا عمى في السياسة لا يكون إلا بخذلان من الله قدره وقضاه.


* بنو الأصفر: هم الروم ومن إليهم من الأوربيين.
** الغثاء: ما يحمله السيل من الهشيم ونحوه مما تحطم وتعفن ولا قيمة له ولا قوة فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>