للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإني أرى أنه لا ينبغي لأهل الأقطار العربية أن يقتبسوا من عناصر المدنية الغربية اقتباس التقليد، بل اقتباس التحقيق، بعد أن يعطوا كل شيء حقه من التمحيص ويقلبوه على حالتيه الشرقية والغربية؛ فإن التقليد لا يكون طبيعة إلا في الطبقات المنحطة، وصناعة التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحد، وما قلد المقلد بلا بحث ولا روية إلا أتى على شيء في نفسه من ملكة الابتكار وذهب ببعض خاصيته العقلية؛ على أننا لا نريد من ذلك ألا نأخذ من القوم شيئًا؛ فإن الفرق بعيد بين الأخذ في المخترعات والعلوم، وبين الأخذ من زخرف المدنية وأهواء النفس وفنون الخيال ورونق الخبيث والطيب؛ إذ الفكر الإنساني إنما ينتج الإنسانية كلها، فليس هو ملكًا لأمة دون أخرى؛ وما العقل القوي إلا جزء من قوة الطبيعة.

فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فلنأخذ ما يتفق مع الأصل الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الاجتماعية عند الحد الذي لا يجوز على أخلاق الأمة ولا يفسد مزاجها ولا يضعف قوتها.

وإذا نقلنا من الأدب والشعر فلندع خرافات القوم وسخافاتهم الروائية إلى لب الفكر ورائع الخيال وصميم الحكمة، ولنتتبع طريقتهم في الاستقصاء والتحقيق، وأسلوبهم في النقد والجدل، وتأتيهم إلى النفس الإنسانية بتلك الأساليب البيانية الجميلة للتي هي الحكمة بعينها.

وأما في العادات الاجتماعية فلنذكر أن الشرق شرق والغرب غرب -وما أرى هذه الكلمة تصدق إلا في هذا المعنى وحده- والقوم في نصف الأرض ونحن في نصفها الآخر، ولهم مزاج وإقليم وطبيعة وميراث من كل ذلك ولنا ما يتفق ولا يختلف؛ وإن أول الأدلة على استقلالنا أن نتسلخ من عادات القوم، فإن هذا يؤدي بلا ريب إلى إبطال صفة التقليد فينا، ويحملنا على أن نتخذ لأنفسنا ما يلائم طبائعنا وينمي أذواقنا الخاصة بنا، ويطلق لنا الحرية في الاستقلال الشخصي؛ ولقد كنا سادة الدنيا قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا منها ومن أثرها فينا من أفسد رجولة رجالنا وأنوثة نسائنا على السواء؛ وما هؤلاء الشبان المساكين الذين يدعون إلى بعض هذه العادات ويعملون على بثها في طبقات الأمة إلا كالذي يحسب أن أوروبا يمكن أن تدخل تحت طربوشه.. ولقد غفلنا عن أننا ندعو الأوروبيين إلى أنفسنا وإلى التسلط على بلادنا بانتحالنا عاداتهم الاجتماعية؛ لأنها نوع من المشاكلة بيننا وبينهم، ووجه من التقريب بين جنسين يعين على اندماج أضعفهما في أقواهما ويضيق دائرة الخلاف بينهما، ثم هو من أين اعتبرته وجدته

<<  <  ج: ص:  >  >>