وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمت نقصت، وكلما نقصت تمت؛ إذ كان مدار الأمر فيها على اعتبار أكثر من يقرؤونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين؛ وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية؛ فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ.. وما بد أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها، فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد، لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها؛ ثم هي عمل الساعة واليوم، فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح؛ إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان.
ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها؛ فإن أساس النبوغ "ما يجب كما يجب"؛ ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق؛ أما هي فأساسها "ما يمكن كما يمكن" ودأبها السرعة والتصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير.
فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا إذا نضج وتم وأصبح كالدولة على "الخريطة"، لا كالمدينة في الدولة في الخريطة؛ فهو حينئذ لا يسهل محوه ولا تبديله.. ثم هو يمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجًا من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد من الآفاق، لا كمصباح من مصابيح الشارع!
وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكانًا طبيعيًّا لرجل السياسة قبل غيره؛ إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلًا ومجيبًا، ثم يليه الرجل شبه العالم، ثم الرجل شبه الممثل الهزلي.. والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعًا، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعًا!.
ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في نومي فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي "وحي القلم" إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية؛ ودلوني عليه فإذا رجل مربوع مشوه الخلق صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريهما دورة وحشية كأنما رعبته الحياة مذ كان جنينًا في بطن أمه؛ لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه هذا النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية فينبغ في فنونها، أو هو قد