خلق بهاتين الجاحظتين دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل قد أرسل لتدقيق النظر.
وقال الذي عرفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ.. وهو أديب الجريدة.
قلت: شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟
فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحاذ الجريدة، يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح: بالرغيف والجبن والبيض والقرش..
قلت: إنا لله! فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنت من أعاجيب الدنيا؟ وكيف خبت في الصحافة وكنت رأسًا في الكلام؟
قال: نجحت أخلاقي فخابت آمالي، ولو جاء الوضع بالعكس لكان الأمر بالعكس؛ والمصيبة في هذه الصحف أن رجلًا واحدًا هو قانون كل رجل هنا.
قلت: وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟
قال: له ثلاثة قوانين: الجهات العالية وما يستوحيه منها، والجهات النازلة وما يوحيه إليها، وقانون الصلة بين الجهتين وهو..
قلت: وهو ماذا؟
فحملق في وقال: ما هذه البلادة؟ وهو الذي "هو".. أما ترى الصحيفة ككل شيء يباع؟ وأنت فخيرني -ولك الدولة والصولة عند القراء- ألم تر بعينيك أنك لو جئت تدفع ثمانمائة قرش، لكنت في نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة من البيان والأدب؟
قلت: يا أبا عثمان، فماذا تكتب هنا؟
قال: إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية، فماذا ترى أنت في ... وفي ... وفي؟ ... لقد كنا نروي في الحديث: "يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها"؛ فلعل من هذه الألسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة ...
قلت: ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة.
قال: القراء ما القراء؟ وما أدراك ما القراء؟ وهل أساس أكثرهم إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياء، وضعف الأخلاق، وكذب السياسة؟ إن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة ... وما دام المبدأ هو الكذب، فالمظهر هو الهزل؛ والناس في حياة قد ماتت فيها