له الباشا، ووصل يده بيد ابنته فألبسها وألبسته، وأعلمها أبوها أنه قد فحص عن البك فإذا هو "بك" قوة مائتي فدان. أما الأفندي فظهر من الفحص الهندسي الاجتماعي أنه "أفندي" قوة خمسة عشر جنيهًا في الشهر!
وخَنَس الأفندي وتراجع منخزلًا، وقد علم أن "الباشا" إنما زوج لقبه قبل أن يزوج ابنته، وأنه هو لمن يملك مهر هذا اللقب إلا إذا ملك أن يبدل أسباب التاريخ الاجتماعي في الأمم الضعيفة، فينقل إلى العقل أو النفس ما جعلته "أمم الأكل والشرب" من حق المعدة، فلا يكون "باشا" إلا مخترع شرقي مفلس أو أديب عظيم فقير، أو من جرى هذا المجرى في سمو المعنى لا في سمو المال.
وقدمت مائتا الفدان مهرها "الطيني" العظيم بما تعبيره في اللغة الطينية: ثمن عشرين ثورًا، ومثلها جاموسًا، ومثلها بغالًا وأحمِرَة، وفوقها مائة قنطار قطنًا، ومائة إردب قمحًا؛ ثم ذرة، ثم شعيرًا. والمجموع الطيني لذلك ألف جنيه، وعزَّى الباشا أنه مستطيع أن يقول للناس: إنها خمسة آلاف، اختزلتها الأزْمة قبحها الله!
ثم زُفَّت "بنت الباشا" زفافًا طينيًّا بهذا المعنى أيضًا، كان تعبيره: أنه أنفق عليه ثمن ألف قنطار بصلًا، ومائة غَرارة من السماد الكيماوي، كأنما فرش بها الطريق!
وطفِق الباشا يفاخر ويتمدح، ويتبذخ على الأفندي وأمثال الأفندي بالطين ومعاني الطين؛ فردت الأقدار كلامه، وجعلت مرجعه في قلبه، وهيأت لبنت الباشا معيشة "طينية" بمعنى غير ذلك المعنى.
ومات الطفل؛ فردت هذه النكبة بنت الباشا إلى معاني انفرادها بنفسها قبل الزواج، وزادتها على انفرادها الحزن والألم؛ وألقت الأقدار بذلك في أيامها ولياليها التراب والطين.
ولجَّ الحزن ببنت الباشا فجعلت لا ترى إلا القبر، ولا تتمنى إلا القبر، تلحق فيه بولدها؛ فوضعت الأقدار من ذلك في روحها معنى الطين والتراب.
وأسقم الهم بنت الباشا وأذابها؛ فنقلت الأقدار إلى لحمها عمل الطين، في تحليله الأجسام وإذابتها تحت البِلَى.