للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكان وراء قصرها حِوَاء١ يأوي إليه قوم من "طين الناس" بنسائهم وعيالهم، وفيهم رجل "زبال" له ثلاثة أولاد، يراهم أعظم مفاخره وأجمل آثاره، ولا يزال يرفع صوته متمدحا بهم, ويخترع لذلك أسبابا كثيرة لكي يسمعه جيرانه كل ليلة مفاخرًا، مرة بأحمد، ومرة بحسن، ومرة بعلي، وأعجب أمره أنه يرى أولاده هؤلاء متممين في الطبيعة لأولاد "الباشوات". وهو يحبهم حب الحيوان المفترس لصغاره؛ يرى الأسد أشباله هم صنعة قوته، فلا يزال يحوطهم ويتممهم ويرعاهم، حتى إنه ليقاتل الوجود من أجلهم؛ إذ يشعر بالفطرة الصادقة أنه هو وجودهم، وأن الطبيعة وهبت له منهم مسرات قلبه، ذلك القلب الذي انحصرت مسراته في النسل وحده، فصار الشعور بالنسل عنده هو الحب إلى نهاية الحب, وكذلك الزبال الأسد٢.

ومن سخرية القدر أن زبالنا هذا لم يسكن الحواء إلا في تلك الليلة التي جلست فيها بنت الباشا على ما وصفنا، وفي ضلوعها قلب يفتت من كبدها، ويمزق من أحشائها.

وبينا تُناجي نفسها وتعجب من سخرية الأقدار بالباشا والبك، وتستحمق أباها فيما أقدم عليه من نبذ كفئها لعجزه عن مهر باشا، وإيثار هذا المهر الطيني، وتباهيه به أمام الناس، واندرائه بالطعن على من ليس له لقب من ألقاب الطين, بينا هي كذلك إذا بالزبال؛ كانس التراب والطين يهتف في جوف الليل ويتغنى:

يا ليل، يا ليل، يا ليل ... ما تنجلي يا ليل

القلب٣ أهو راضي ... لك حمدي يا ربي

من الهموم فاضي ... افرح لي يا قلبي

يا دوب كدا يا دوب ... زي الحمام عايش


١ الحواء: جماعة من البيوت كهذه العشش التي يسكنها الصعايدة في بعض الأحياء.
٢ هذا الزبال شخصية حقيقية، لو قلنا بمذهب الرجعة لكان "أرسطو" رجع زبالًا ليتمم فلسفته. والكاتب يعرف الرجل ويبره أحيانًا وكان "حضرته" قد طلب إلينا أن نصنع له "موالًا" يتغنى به في "أوقات الصفاء" فوضعنا له الأغنية التي يراها القارئ بعد وهو يصدح بها في لياليه. وسنفرد لزبالنا هذا مقالًا خاصًّا إن شاء الله.
٣ انظر الهامش السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>