للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد، فأنشدته:

ومن يشتري مني ملوك مخرمِ ... ابع حسنًا وابني هشام بدرهمِ

وأعطي "رجاءً" بعد ذاك زيادة ... وأمنح "دينارًا" بغير تندمِ

قال أبو عثمان:

فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم ... "أبا دلف" و"المستطيلَ بن أكثمِ"

ويلي على هذا الشاعر! اثنان بدرهم، واثنان زيادة فوقهما لعظم الدرهم، واثنان زيادة على الزيادة لجلالة الدرهم: كأنه رئيس تحرير جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتابًا، ولكن ههنا شيئًا لا أقوله.

وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة، فأعجب بها وأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له شيرين: أمرت للصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرت بها لرجل من الوجوه قال: إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد! فقال كسرى: كيف أصنع وقد أمرت له؟

قالت: إذا أتاك فقل له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ فإن قال أنثى، فقل له: لا تقع عليك حتى تأتيني بقرينها، وإن قال غير ذلك فقل له مثل ذلك.

فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ قال: بل أنثى، قال الملك: فأتني بقرينها. فقال الصياد: عمر الله الملك، إنها كانت بكرًا لم تتزوج بعد..

قلت: يا أبا عثمان، فهل وقعت في مثل هذه المعضلة مع رئيس التحرير؟

قال: لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكرًا، فإنما يريدون إخراجه من الجريدة؛ وما بلاغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلاغة التلغراف وبلاغة الخبر وبلاغة الأرقام وبلاغة الأصفر وبلاغة الأبيض ... ولكن ههنا شيئًا لا أريد أن أقوله.

وسمكتي هذه كانت مقالة جودتها وأحكمتها وبلغت بألفاظها ومعانيها أعلى منازل الشرف وأسنى رتب البيان، وجعلتها في البلاغة طبقة وحدها، وقيل أن يقول الأوروبيون "صاحبة الجلالة الصحافة" قال المأمون: "الكتاب ملوك على الناس"، فأراد عمك أبو عثمان أن يجعل نفسه ملكًا بتلك المقالة فإذا هو بها من "صعاليك الصحافة".

<<  <  ج: ص:  >  >>