الكلام الظريف الذي يقال في الوجه ليدفع في القفا ... كان ينبغي ألا يملك هذه الصحافة اليومية إلا مجالس الأمة؛ فذلك هو إصلاح الأمة والصحافة والكتاب جميعًا؛ أما في هذه الصحف، فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه؛ ولو أن عمك في خفض ورفاهية وسعة، لكان في استغنائه عنهم حاجتهم إليه؛ ولكن السيف الذي لا يجد عملًا للبطل، تفضله الإبرة التي تعمل للخياط، وماذا يملك عمك أبو عثمان؟ يملك ما لا ينزل عنه بدون الملوك، ولا بالدنيا كلها، ولا بالشمس والقمر؛ إذ يملك عقله وبيانه، على أنه مستأجر هنا بعقله وبيانه، ويعقل ما شاءوا ويكتب ما شاءوا.
لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية: إن الكاتب حين يخرج من صحيفة إلى صحيفة، تخرج كتابته من دين إلى دين ...
ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثل البارود في دماغه ثم أشعله، فأردت أن أمازحه وأسري عنه، فقلت: اسمع يا أبا عثمان، جاءتني بالأمس قضية يرفعها صاحبها إلى المحكمة، وقد كتب في عرض دعواه أن جار بيته غصبه قطعة من أرض فنائه الذي تركه حول البيت، وبنى في هذه الرقعة دارًا، وفتح لهذه الدار نافذات، فهو يريد من القاضي أن يحكم برد الأرض المغصوبة، وهدم هذه الدار المبنية فوقها ... وسد نافذتها المفتوحة!..
فضحك الجاحظ حتى أمسك بطنه بيده وقال: هذا أديب عظيم كبعض الذين يكتبون الأدب في الصحافة؛ كثرت ألفاظه ونقص عقله، "وسئل بعض الحكماء: متى يكون الأدب شرًّا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض" ١ والأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه؛ إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب؛ لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب؛ إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب؛ لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب، ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ، وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد: تأكل منه ولا تعطيه شيئًا.
ثم يأبى من تترك هذه الصفحة إلا أن يجعل نفسه "رئيس تحرير" على الأدباء، فما يدع صفة من صفات النبوغ ولا نعتًا من نعوت العبقرية إلا نحله نفسه