للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أسلوب من الخلق؛ ليبدع أسلوبًا من التأثير؛ وكل ذلك شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ولا يتعدى؛ لأنه وصف لأحوال دقيقة طارئة على النفس، لا تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها.

والشرط في العبقري الذي تلك صفته وذلك أدبه، أن يعلو بالرذيلة ... في أسلوبه ومعانيه، آخذًا بغاية الصنعة، متناهيًا في حسن العبارة؛ حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختارت منه مفسرها العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هو وحده الطرف المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة، فيصنع الإلهام في هذا وفي هذا صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير، أصلها في أديب الفضيلة ما يريده ويجاهد فيه، وفي أديب الرذيلة ما يقوده ويندفع إليه، كأن منهما إنسانًا صار ملكًا يكتب، وإنسانًا عاد حيوانًا يكتب ...

وإذا أنت ميَّلت بين رذيلة الأديب العبقري في فنه، ورذيلة الأديب الفسل الذي يتشبه به -في التأليف والرأي والمتابعة والمذهب- رأيت الواحدة من الأخرى كبكاء الرجل الشاعر من بكاء الرجل الغليظ الجلف: هذا دموعه ألمه، وذاك دموعه ألمه وشعره؛ وفي كتابة هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لك أن الأسلوب هو أساس الفن الأدبي، وأن اللذة به هي علامة الحياة فيه؛ إذ لا ترى غير قطعية أدبية فنية، شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليست في الحقيقة إلا نكتة نفسية لاهتياج البواعث في نفوس قرائها، وأنها على ذلك هي أيضًا مسألة من مسائل الإنسانية مطروحة للنظر والحل، بما فيها من جمال الفن ودقائق التحليل.

واللذة بالأدب غير التلهي به واتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعًا على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخفًا ومضيعة؛ فإن اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، وهي الأصل في جمال الأسلوب؛ ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كله كسائر ما ركب في طبيعة الحي؛ إذ يحس الذوق لذة الطعام مثلًا على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها؛ أما التلهي فيجيء من سخف الأدب؛ وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة؛ وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية بل أدب فئة بعينها وأحوالها؛ فإن أديب صناعته أو أديب جماعته، غير أديب قومه وأديب عصره، أحدهما إلى حد محدود من الحياة، والآخر عمل جامع مستمر متفنن؛ لأن عمله

<<  <  ج: ص:  >  >>