للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأدبي وهو وجوده، وكل شيء في قومه لا يبرح يقول له: اكتب ...

ومن الأصول الاجتماعية التي لا تتخلف، أنه إذا كانت الدولة للشعب، كان الأدب أدب الشعب في حياته وأفكاره ومطامحه وألوان عيشه، وزخر الأدب بذلك وتنوع وافتن وبني على الحياة الاجتماعية؛ فإن كانت الدولة لغير الشعب، كان الأدب أدب الحاكمين وبني على النفاق والمداهنة والمبالغة الصناعية والكذب والتدليس، ونضب الأدب من ذلك وقل وتكرر من صورة واحدة؛ وفي الأولى يتسع الأديب من الإحساس بالحياة وفنونها وأسرارها في كل من حوله، إلى الإحساس بالكون ومجاليه وأسراره في كل ما حوله؛ أما الثانية فلا يحس فيها إلا أحوال نفسه وخليطه، فيصبح أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسع لا يزال يذهب فيها ويجيء حتى يمل ذهابه ومجيئه.

والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديمًا وحديثًا، أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم!

فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطًا فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع، وبعظيمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقة النفس، وبدقته المتناهية في العمق صورة لدقة النظر إلى الحياة؛ ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطة لها المقاييس التاريخية، محكمة لها الأوضاع الإنسانية، مشترطة فيها المثل الأعلى، حاملة لها النور الإلهي على الأرض ...

.... وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاء ساميًا، ويدفعها إلى المعالي دفعًا، ويردها عن سفاسف الحياة، ويوجهها بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة، ويسددها في أغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرز المحكم، ويملأ سرائرها يقينًا ونفوسها حزمًا وأبصارها نظرًا وعقولها حكمة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية ...

... إذا أردت الأدب على كل هذه الوجوه من الاعتبار -وجدت القرآن الحكيم قد وضع الأصيل الحي في ذلك كله، وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسًا، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لن تتغير؛ ومع ذلك كله لم يتنبه له الأدباء ولم يحدوا بالأدب حذوه، وحسبوه دينًا فقط، وذهبوا بأدبهم

<<  <  ج: ص:  >  >>