أسرار الإنسانية، هي كرة طائرة فيما مد لها من الوجود، وأن كل حي فيها يحمل أسرار حياته في كرة خاصة به هي رأسه، وأن الوجود من كل حي هو بعد ذلك ليس شيئًا في النظر ولا في الحس ولا في الفهم إلا كما يرى ويحس ويفهم في هذا الرأس بعينه على طريقته وتركيبه، فيصعد التدريج إلى الكبير إلى الأكبر، وينزل إلى الصغير إلى الأصغر؛ ثم لا معنى لما صعد إلا مما نزل، وبهذا ستكون آخرة جميع العلوم متى نفذ العلماء إلى السر الحقيقي، أن العقل الإنساني فهم كل شيء ولم يفهم شيئًا ...
والناس يختلفون بتركيب أدمغتهم على شبيه من هذا التدريج؛ فأما واحد فيكون دماغه باعتباره من سائر الناس في الذكاء والعقل كالوجود المحيط، وأما آخر فكالشمس، ثم غيرهما كالأرض، ثم الرابع كالإنسان، ثم يكون منهم كالحيوان ومنهم كالحشرة؛ ولا علة لك لهذا إلا ما هيأت الأقدار "بأسبابها الكثيرة"، لكل إنسان في تركيب دماغه في نوع المادة السنجابية من المخ، وأحوال التركيب في الملايين من الخلايا العصبية، وما لا يعد من فروع هذه الخلايا وشعبها: ثم ما يكون من قبل العلاقات بين هذه الفروع التي هي لكل رأس كرمل الكرة الأرضية، ثم اختلاف مقادير المواد الكيماوية التي تتخلق في غدد الجسم وتنفثها الغدد في الدم.
فقد يكون العمل النابغ المتمرد على العقول آتيًا من قطرة في هذه الغدد، كما ينبعث العملاق المارد بعظامه الممتدة وألواحه المشبوحة من غدته النخامية لا غيرها.
فالذكي من ذكي مثله إنما هو كالجيش من جيش بإزائه: يقع الاختلاف بينهما فيما اشتملا عليه من كثرة الجند، وصفاتهم من القوة والضعف، وأحوالهم من النظام والاختلال، وقوة آلاتهم ومقدارها ونوع الاختراع فيها، ثم طبيعة موضعهم وحسن توجيههم وقيادتهم، وما اكتنفهم من صعب أو سهل، وما تظاهر علهيم من الحوادث والأقدار، ثم التوفيق الذي لا حيلة فيه إن وقع في حصة أحدهما واستقر، أو وقع هونًا وطار للآخر، وبنحو من هذا كله تكون المفاضلة إذا وازنت بين اثنين من النوابغ في حقيقة نبوغهما.
فالنابغة خلق من خالقه، يصنع كما ترى بأقدار الله؛ إذ هو قدر على قومه وعلى عصره، وهو من الناس كالورقة الرابحة من ورق السحب "اليانصيب": سلة يد جعلتها مالًا وتركت الباقيات ورقًا وأحدثت بينهما الفرق الذهبي؛ وبهذا لا يستطيع العالم أن يزيد الدنيا نابغة إلا إذا استطاع أن يزيد في الكوكب نجمًا