فيصنعه؛ وهبه صنعه من الكهرباء، فيبقى أن يحمله، وإذا حمله بقي أن يرفعه إلى السموات؛ وهبه قد رفعه فيبقى كل شيء ... يبقى عليه أن يقحمه في النجوم ويرسله فيها يدور وينفلك.
وكما يخلق النابغة بتركيبه، تخلق له الأحوال الملائمة لعمله الذي خص به في أسرار التقدير عاملًا نافعًا، وإن كانت لا تلائمه هو منتفعًا؛ فإنه هو غير مقصود إلا من حيث إنه وسيلة أو آلة تكابد ما تحتمل في أعمالها، ويؤتى لها لتأخذ على طريقة وتعطي على طريقة؛ وبذلك يرجع التقدير إلى أن يكون العقل لنابغة دليلًا للناس من الناس أنفسهم على الخالق الذي هو وحده أمره الأمر.
وإذا كان الجمال يستعلن في كلام هؤلاء النوابغ، والخيال يظهر في تعبيرهم، والحكمة تهبط إلى الدنيا في تفكيرهم، والمثل الأعلى هم الداعون إليه، والأشواق النفسية هم موقظوها، والعواطف هم المصورون لها، وسرور الحياة هم الذين حولوه إلى الفن -إذا كان هذا كله فهذا كله إنما هو توكيد لاتصالهم بالقوة الأزلية المدبرة، وأنهم أدواتها في هذه المعاني؛ فما هي أعمالهم أكثر مما هي أعمالها؛ وقد يظن الناس أن النابغة يلتمس القوى المحيط به ليبدع منها، والحقيقة أنها هي تلتمسه لتبدع به.
وبعده؛ فالنابغة كأنه إنسان من الفلك، فهو يخزن الأشعة العقلية ويريقها، وفي يده الأنوار والظلال والألوان يعمل بها عمل الفجر كلما أظلمت على الناس معاني الحياة؛ ولا تزال الحكمة تلقي إليه الفكرة الجميلة ليعطيها هو صورة فكرتها، وتوحي إليه معنى الحلق ليؤتيها هو معنى جمال الحلق؛ والطبيعة خلقها الله وحده، ولكنها ليست معقولة إلا بالعلم، وليست جميلة إلا بالشعر، وليست محبوبة إلا بالفن؛ فالنوابغ في هذا كله هم شروح وتفاسير حول كلمات الله، وكلهم يشعر بالوجود فنًّا كاملًا ويشعر بنفسه شرحًا لأشياء من هذا الفن، ويرى معاني الطبيعة كأنما تأتيه تلتمس في كتابته وشعره حياة أكبر وأوسع مما هي فيه من حقائقها المحدودة، وتتعرض له أحزان الإنسانية تسأله أن يصحح الرأي فيها باستخراج معناها الخيالي الجميل، فإنها وإن كانت آلامًا وأحزانًا إلا أن معناها الخيالي هو سرور تحمله للناس؛ إذ كان من طبيعة النفس البشرية أن تسكن إلى وصف آلامها وفلسفة حكمتها حين تبدو بصائرها حاملة أثرها الإلهي، كأن المؤلم ليس هو الألم، وإنما هو جهل سره.
وبالجملة فالكون يختار في كل شيء مفسره العبقري ليكشف من غموضه