عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استطراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر- كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن". هذا كلام ابن رشيق، وليس لهم أحسن منه، وهو مع ذلك تخليط لا قيمة له وليس فيه من موضوعنا إلا لفظ التوليد.
ومما لا نقضي منه عجبًا في تتبع فلسفة هذه اللغة العربية العجيبة، أننا نرى أكثر ألفاظها كالتامة لا ينقصها شيء من دقائق المعنى في أصل وضعها، على حين لا يفهم علماؤنا من هذه الألفاظ إلا بعض ما تدل عليه، كأنها منزلة تنزيلًا ممن يعلم السر؛ وقد نبهنا إلى هذا في كتاب "تاريخ آداب العرب" وأفضنا فيه واستوفينا هناك من فلسفته، وجاء القرآن الكريم من هذا بالعجائب التي تفوت العقل، حتى أن أكثر ألفاظه لتكاد تكون مختومة نزلت كذلك لتفض العلوم والفلسفة خواتمها في عصور آتية لا ريب فيها*؛ وكلمة التوليد التي لم يفهم منها العلماء إلا أخذ معنى من معنى غيره بطريقة من طرق الأخذ التي أشاروا إليها في كتب الأدب -هي الكلمة التي لا يخرج عنها شيء من أسرار النبوغ ولا تجد ما يسد في ذلك مسدها أو يحيط إحاطتها، ولا نظن في لغة من اللغات ما يشبهها في هذه الدلالة واستيعابها كل أسرار المعنى؛ إذ هو بلفظها نص على حياة الكون في الذهن الإنساني، وأنه يتخذه وسيلة لإبداع معانيه، كما يتخذ سر الحياة بطن الأم وسيلة لإبداع موجوداته؛ وأن المعاني تتلاقح فيلد بعضها بعضًا في أسلوب من الحياة، وأن هذه هي وحدها الطريقة لتطور الفكر وإخراج سلالات من المعاني بعضها أجمل من بعض، كما يكون مثل ذلك في النسل بوسائل التلقيح من الدماء المختلفة، وأن النبوغ ليس شيئًا إلا التركيب العصبي الخاص في الذهن، ثم نمو هذا التركيب مع الحياة في طريقة سواء هي وطريقة الولادة المحيية التي مرجعها كذلك إلى تركيب خاص في أحشاء الأنثى؛ ينمو، ثم يدرك ثم يعمل عمله المعجز؛ وإذا كان من كل شيء في الطبيعة زوجان، فالكلمة نص على أن أذهان النوابغ أذهان مؤنثة في طباعها التي بنيت عليها؛ وهذا صحيح؛ إذ هي أقوى الأذهان على الأرض في الحس بالآلام والمسرات، ومعاني الدموع والابتسام أسرع إليها من غيرها، بل هي طبيعة فيها؛ وهي وحدها المبدعة للجمال والمنشئة للذوق، وعملها في ذلك هو قانون وجودها؛ ثم هي قائمة على الاحتمال والإعطاء والرضا
* على هذا المعنى وكشف أسراره في آيات القرآن سيبنى كتابنا الجديد "أسرار الإعجاز". قلت: وانظر ص٢٨٩ "حياة الرافعي".