بالحرمان في سبيل ذلك وإدمان الصبر على التعب والدقة والاهتمام بالتفاصيل وأساسها الحب؛ وكل ذلك من طباع الأنثى وهي النابغة فيه، بل هي النابغة به.
فسر النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، والجوهر على الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس؛ فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سر تركيبها؛ ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمد لهم في الخلاف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقة؛ وبذلك تتنوع الأساليب، ويعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته.
وقد سئل مصور مبدع بماذا يمزج ألوانه فتأتي ولها إشراقها وجمالها ونبوغ مبانيها وزهو الحياة بها في الصورة، فقال: إنما أمزجها بمخي، وهذا هذا؛ فإن الألوان عند الناس جميعًا، ولكن مخه عنده وحده وله تركيبه الخاص به وحده وسر الصناعة في توليد هذا الدماغ فكأن ألوانه في صناعته جاءت منه بخصوصه، وكذلك كل ما يتناوله العبقري فإنك لتجد الشعر في وزن خاص به يدل عليه ويتمم الغرض منه ويضيف إلى معانيه أنقًا من الجمال وحسنه وإلى صورته نغمًا من الموسيقى وطربها، فما أشبه الجهاز العصبي في دماغ كل نابغة أن يكون وزنًا شعريًا لهذا النابغة بخاصته، ألا ترى أنك لا تقرأ الأديب الحق إلا وجدت كل ما يكتبه يجيء في وزن خاص به حتى لا يخرج عنه مرة، أو تزيد أنت فيه وتنقص إلا ظهر لك أنه مكسور ... ؟
والذهن العبقري لا يتخذ المعاني موضوع بحث ونظر وتعقب يستخرج منها أو يتعلق عليها فهذا عمل الذهن الذكي وحده وهو غاية الغايات فيه يبحث وينظر ويتصفح ويجمع من هنا ويأخذ من ثم ويعترض ويصحح ويأتيك بالمقالة يحسب فيها كل شيء وما فيها إلا أشياؤه هو وأمثاله. أما الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا تكاد تلابسه حتى تتحول فيه وتنمو وتتنوع وتتساقط له أشكالًا وصورًا في مثل خطرات البرق، وربما غمر بالمعنى الواحد في جماله وسموه وقوة تأثيره مقالات عدة لأولئك الأذكياء فنسخها نسخًا وجعلها منه كالشموع الموقدة بإزاء الشمس. فإذا ذهبت توازن بين مثل هذا المعنى ومثل هذه المقالات في الروعة