شيئًا؛ والثانية قومن من جبابرة العقول ... تعرف لهم من الخلط وسخف الرأي ما يريدون أن يعلوا به على الناس؛ إذ كان الناس لا يجاوزون الحقائق، فظن هؤلاء أنهم إن جاوزوها وعدوا عليها خرجوا إلى طبقة فوق العقل الإنساني. وللجنون طرفان: أحدهما ألا يعقل المجنون عن الناس، والآخر ألا يعقل الناس عن العاقل: فذلك ذلك وهذا هذا؛ وكأن في رأس كل منهما مضمرة من قوة الخلق تنطوي على محجوبة إلهية، فكل منهما يزيد في الخلق ما يشاء، وكل منهما فوق الطبيعة لأنه من ذوي الأسرار المجهولة التي لا تستبين عندنا من خفائها، ثم لا تخفى عندهم من استبانتها.
يضحكني من جبابرة العقول هؤلاء أنهم يرون الدين مرة عادة، وتارة اختراعًا، وحينًا خرفة، وطورًا استبعادًا؛ وكل ذلك لهم رأي، وكل ذلك كانوا يعقدونه بالحجة ويشدونه بالدليل؛ فلما جاء طاغور الشاعر الهندي المتوصف إلى مصر، وجلسوا إليه وسمعوه، خرجوا يتكلمون كأنما كانوا في معبد، وكأنما تنزلت عليهم حقيقته الإلهية، وكأنما اتضعت هذه الدنيا عن المكان الذي جلس فيه الرجل، فلا يعرفونه من الأرض، ولا من هذا العالم؛ بل كانوا في غشية قد فروا لها وسكنوا إليها، وما أراهم صرفوا عن عقولهم ولا صرفت عقولهم عنهم؛ ولكن طاغور شاعر فيلسوف، وهم يعرفون أنفسهم من لصوص كتبه وآرائه، ويقعون منه موقع السفسطة الفارغة من البرهان القائم، وإذا قيسوا إليه كانوا كالذباب تزعم أنفسها نسور المزابل، ولكنها لا تكابر في أن من الهزؤ بها قياسها بنسور الجو.
لقد ضربهم طاغور، لا بأنه لمسهم، بل بأنهم لمسوه ... وفضحهم فضيحة اللؤلؤة للزجاج المدعى أنه لؤلؤ، وأظهر لنا تجملهم العقلي كهذه الأصباغ في وجه الشوهاء: تذهب تتصنع ولا تدري أنه إن كان أدهانها وأصباغها روح النقاش ففي وجهها هي معنى الحائط!
لقد قرأت كل ما كتبوا عن طاغور ألتمس فيه هذه الحقيقة لأرى كيف يكون جبابرة العقول حين تنكشف عنهم المعاذير وتنزاح العلل وتنهتك الأستار، فإذا هم في كل ما كتبوه لا يحسون إلا هذه الحقيقة، ولا يصفون إلا هذا الحس، فلم يزهم عندنا إلا هذا الوصف؛ لا جرم فكل ما أثنوا به على الشاعر الفيلسوف قرأناه ذمًا لهم، وعرفناه قدحًا فيهم، وأخذناه تهمة عليهم، وكل ما أعظموه من أمره صغر من أمرهم، ولقد جعلواه إنسانًا كأنما تنتهي قمة هذه الدنيا عند قدمه، وتبدأ قدمه من قمة الدنيا، فما عرفنا من ذلك قياسًا لسمو طاغور وارتفاع نفسه، بل