قياسًا لانحطاط أنفسهم وهوان أمرهم وقلة خطرهم؛ فإن الرجل المقلد المخدوع لا يزال يطول في تقليده، ولا يزال يتوعر في الرأي الذي يراه ويعتسف طرق العلم اعتسافًا؛ حتى يرميه الله بأصل من هذه الأصول الإنسانية التي يقلدها؛ فإذا هو مفحم يتقاصر من طول، ويتسهل من وعر، ويهتدي من تعسف، وينحط إلى الوهدة بعد أن كان على الجبل، ويسلم في نفسه، ويذعن برأيه، وينقاد من حيث يأبى ومن حيث لا يأبى، ويصبح وقد غمرته تلك النفس أشبه بالظل مما يرميه ويفيء به؛ فهو مسخ في تمثيله الصورة، وهو كذب عليها بما يطول ويقصر، وهو على كل أحواله إبهام سخيف مظلم لحقيقة شريفة نيرة.
وأنت أفلا ترى هذا من جبابرة العقول كتلك الشيمة في أخلاق العامة، إذ لا يصلحون أبدًا إلا أن يكونوا تبعًا، ولا علم لهم إلا ما يربط في صدورهم من فلان وفلان، ثم يعملون بلا تحقيق، ويحملون بلا تمييز، ثم لا تكون نهمة أنفسهم مع الرجل العالم -إذا اجتمعوا به- إلا في التسليم له، واتقاء حقائقه، والنزول عن آرائهم إلى رأيه، والخروج من أنفسهم إلى نفسه!
لقد قلنا من قبل: إن جبابرة العقول هؤلاء الذين يأبون إلا أن يكونوا علماءنا وسادتنا؛ ليصرفوا عقولنا ويغيروا عقائدنا ويصلحوا آدابنا ويدخلونا في مساخط الله ويهجموا بنا على محارمه ويركبونا معاصيه- إن هم في أنفسهم إلا عامة وجهلة وحمقى إذا وزنوا بعلماء الأمم وقيسوا إلى حكماء الدنيا، وما يكتبون للأمة في نصيحتها وتعليمها إلا ما يتحول من كلمات وجمل في الصحف والكتب إلى أن يصيروا في الواقع فساقًا وفجرة وملحدين وساخرين ومفسدين؛ فالمصيبة فيهم من ناحية العلم الناقص في وزن المصيبة بهم من ناحية الخلق الفاسد، وهاتان معًا في وزن المصيبة الكبرى التي يجنون بها على الأمة لتهديمها فيما يعلمون، وتجديدها فيما يزعمون..
لم أنخدع قط في هؤلاء من فلاسفة أو دكاترة أو جبابرة، ولست أضع أمرهم إلا على حقه، فإني لأعرف أن الهر من قبيلة الأسد، ولكن أسديته على الفأرية وحدها ... ولعلما عاقبة الجهل خير للأمة من عواقب علمهم وتخبطهم وحماقاتهم فإنهم قوم مقلدون، ولهم طباع معتلة زائغة، وعقول لا مساك لها من دين أو ضمير؛ فما يجنحون إلا إلى بدعة سيئة، أو آفة محذورة، أو فكرة متهمة؛ ولا يعملون إلا ما يشبه الظن بهم، والرأي فيهم؛ من تمدين الأخلاق السافلة وإلحاقها بالعلم أو الفلسفة، مع بقاء العقل صحيحًا يحكم على هذا الخبيث