للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والانصراف إلى اللفظ واستكراهه على الوجه الذي أرادوا، إلى ما يتشعب من ذلك ويخرج أو يدخل في بابه؛ وقد كان هذا ومثله مما يساغ ويحتمل في القرن الثامن وأكثر التاسع للهجرة، ثم في أيام بعد ذلك؛ غير أنه بلي وتهتك في مصر خاصة ولم يبق منه إلى منتصف القرن الثالث عشر إلا رقع وخيوط في قصائد ومقاطيع.

ثم كان أكثر الشعراء يومئذ إنما يحترفون فن الأدب صناعة كسائر المهن والصناعات التي بها قوام العيش لهؤلاء المستأكلين والمتكسبين من السوقة والمرتزقة.

ظهر البارودي ونبغ في شعره قبل أن يقول صبري الشعر بسنوات، ولكن الأدب الفارسي والجزالة العربية هما اللذان تحولا فيه؛ ثم نبغ صبري بعد ذلك بزمن، فتحول فيه الأدب الإفرنجي والرقة العربية؛ وهذا موضع التفاوت في شعر الرجلين اللذين اقتنصا الخيال الشعري من طرفي الأرض، وكلاهما يذهب مذهبًا ويرجع إلى طبع ويروض شعره على وجه؛ فالبارودي يستجزل ويجمع إلى سبكه الجيد قوة الفخامة وشدة الجزالة، ثم يعترض الخيال من حيث يهبط على النفس في ممر الوحي؛ وصبري يسترق ويضيف إلى صفاء لفظه جمال التخير وحلاوة الرقة، ويعارض الفكر من حيث يتصل بالقلب؛ والبارودي لا يرى إلا ميزان اللسان يقيم عليه حروفه وكلماته، وصبري لا يرى إلا ميزان الذوق الذي هو من وراء اللسان؛ وقد يسرت لكليهما أسباب ناحيته في أحسن ما يتصرف فيه؛ فجاء البارودي حافظًا كأنه مجموعة من دواوين العرب والمولدين، وجاء صبري مفكرًا كأنه مجموعة أذواق وأفكار؛ وهما يشتركان معًا في التلوم على صنعة الشعر والتأني في عمله وتقليبه على وجوه من التصفح، وتمحيصه بالنقد والابتلاء لفظًا لفظًا وجملة جملة، ثم مطاولة معانيه ومصابرتها كأنما ينتزعان محاسنها من أيدي الملائكة؛ وأنا أعرف ذلك فيهما؛ وقال لي صبري باشا مرة وقد جاريته في بعض هذا المعنى: إنه يعلم هذا من البارودي ومن نفسه. قلت: أفيبلغ به ذلك أن يمحو بياض اليوم في سواد بيت واحد؟ قال: وفي سواد شطرة أحيانًا! وليس ينقصهما هذا الأمر شيئًا، فإن خبر زهير في حولياته معروف، وقد عمل سبع قصائد في سبع ستين: يحوك القصيدة منها في سنة.

ونقلوا عن مروان بن أبي حفصة أنه قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها في أربعة أشهر، وأعرضها في أربعة أشهر، ثم أخرج بها إلى الناس؛ فقيل هذا هو الحولي المنقح.

<<  <  ج: ص:  >  >>