كان مرجع البارودي إلى الحفظ، فنبغ في وثبات قليلة؛ أما صبري فاحتاج إلى زمن حتى استحكمت ناحيته وآتته أسبابه على الإجادة، لأن مرجعه إلى الذوق، وهذا يكتسب بالمران وينضج عند نضوج الفكر ولا يأتي بالماء والرونق حتى تأتي له أسباب كثيرة؛ وأنت تعرف ذلك في الرجلين من أوائل شعرهما، فقد رثى البارودي أباه في سن العشرين بأبياته الدالية الشهيرة التي مطلعها:
لا فارس اليوم يحمي السرح بالوادي ... طاح الردى بشهاب الحي والنادي
وهي ثمانية عشر بيتًا، وجيدها جيد، وكأنها خرجت من لسان أعرابي؛ وإنما جاءته من صنعة الحفظ، كالذي اتفق للشريف الرضي في أبياته الخائية التي كتب بها إلى أبيه وعمره أربع عشرة سنة، وكان أبوه معتقلًا بقلعة شيراز ومطلعها:
أبلغا عني الحسين ألوكًا ... إن ذا الطود بعد بعدك ساخا
والشهاب الذي اصطليت لظاه ... عكست ضوءه الخطوب فباخا
هذا على أن البداية كما يقال مزلة؛ وقد وفقنا إلى الوقوف على أول ما نشر من شعر صبري باشا، وذلك قصيدتان نشرتا في مجلة روضة المدارس في مدح إسماعيل باشا، فنشرت الأولى في العدد الصادر في غاية شوال سنة ١٢٨٧ للهجرة -١٨٧٠ للميلاد؛ ونشرت الثانية في عدد شهر ربيع الآخر من سنة ١٢٨٨هـ ١٨٧١م؛ وبينهما خمسة أشهر، كانت وثبته فيها ضعيفة متقاصرة، مما يدل على بطء نضجه بطبيعة الأسباب التي تسبب بها إلى الشعر؛ وكانت الروضة يومئذ تنشر لطائفة من فحول دهرهم: كالسيد صالح مجدي، ورفاعة بك رافع، ومحمد أفندي قدري "ونابغة الزمان محمد أفندي رضوان"، وغيرهم. وكانت تستقبل قصائدهم بسجعات داوية مفرقعة، هي لذلك العهد أشبه الأشياء بطلقات مدافع التحية للملوك والأمراء؛ فلما نشرت لصبري قالت في القصيدة الأولى: تهنئة بالعيد الأكبر للخديوي الأعظم بقلم إسماعيل صبري أفندي". وقالت في الثانية: "قصيدة رائية في مدح الحضرة الخديوية من نظم الشاب النجيب إسماعيل صبري أفندي من تلامذة مدرسة الإدارة". ومطلع القصيدة الأولى:
سفرت فلاح لنا هلال سعود ... ونما الغرام بقلبي المعمود
ولا شيء فيها أكثر من حروف المطبعة ... ومطلع الثانية:
أغرتك الغراء أم طلعة البدر ... وقامتك الهيفاءُ أم عادل السمرِ