وفي هذه القصيدة بيت وقفت عنده أرى صبري باشا في صبري أفندي كأنه خيال مولود يستهل، وذلك قوله:
فطول من الهجران عل وقوفنا ... طول معا -يا قاتلي- ساعة الحشر
ويكاد هذا البيت يكون أول انقلاب للفكرة فيه: وهو غريب، والتأمل فيه أغرب، ولكنه يدل على خيال سيثب يومًا على أقطار السموات.
وفي ذلك الزمن عينه كان البارودي شهابًا يتلهب، وكان قد بلغ مبلغه واستجمع أسباب نهايته، بل هو نظم قبل ذلك بست سنوات قصيدته الشهيرة:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرى بأعنة الفرسان
فلم يكن ليذهب وجه الشعر عن صبري، ولم يكن ليغضي عند احتذاء هذه الصنعة البارعة ويأخذ في غيرها لولا أن فيه طبعًا مستقلًا يذهب إلى كماله في أسلوب آخر كأسلوب كل زهرة في غصنها؛ وأخص أحوال صبري أنه لم يرد أن يكون شاعرًا فجاء أكبر من شاعر، وكان السبب الذي صرفه من ناحية هو نفسه الذي جاء به من ناحية أخرى.
ينبغ الشاعر بأربعة أشياء لا بد منها: طريقة الدرس التي عالج بها الشعر، وكتب هذه الطريقة، والرجال الذين هم أمثلتها في نفسه، ثم ... ويالله من "ثم" هذه، فهي اللمحة السماوية التي تشرق على فؤاد الشاعر من وجه جميل، والثلاث الأولى تنشئ نبوغًا معروفًا في نوعه ومقداره، ولكن الأحيرة هي طريق القدر التي لا يعرف آخرها؛ وإذا تجددت في حياة الشاعر أو اتصلت تجدد بها نبوغه أو اتصل، فعلى قدر ما يحب تحبوه السماء من أسرار الجمال، وهي نفسها أجمل أسباب الشعر وأجمل معانيه وأجمل غاياته، فهي هي المادة التي تؤلف بين نفس الشاعر وبين معنى الجمال الشعري في هذا الكون كله؛ وإذا أنت نزعت النظرة والابتسامة -وهما عنصرا تلك المادة- من حياة الشاعر، نزعت الحياة نفسها في شعره فما يبقى منه إلا أنه مقبرة للألفاظ والمعاني، وتسمع شعره فلا تجزيه به أحسن من قولك: يرحمك الله ... وصبري لم يدرس الشعر في الكتب أكثر مما درسه في الوجوه والعيون، وقد عالج هذا الشعر في بدايته ليتأتى إليه من طرقه البعيدة؛ أما الرجال الذين كانوا أمثلته فكانوا رجال الظرف والرقة والنكتة المصرية الشهيرة التي انفرد بها الطبع المصري ونص عليها علماء البلاغة، كالسكاكي