وغيره؛؛ بل كان عصره كله عصر هذه النكتة، فتحولت في طبعه الرقيق المبتكر تحولًا رقيقًا أرجعها إلى الظرف المحض الذي اجتمعت فيه كل طباعه كما يجتمع السحاب من الماء.
ولقد كان في شعره أحق الناس بقول ابن سعيد المغربي:
أسكان مصر جاور النيل أرضكم ... فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
وكان بتلك الأرض سحر فما بقي ... سوى أثر يبدو على النظم والنثر
وإني لأعلم أنه كان دائم الحب: يمزج ذكرى ماضيه بحاضره فيخرج منهما حبًّا جديدًا؛ وكان الرجل كأنه مجروح القلب، فلا يزال يئن حتى في بعض أنفاسه؛ إذ يرسل النفس الطويل بين هنيهة وأخرى، وكأنه يريد أن يطمئن أن نفسه فيه، أو أن شيئًا باقيًا في نفسه؛ وتلك همهمة لا تكون في شاعر من الشعراء بغير معنى.
كانت النظرة والابتسامة تتمثل له حيث شاء وتعترضه حيث أراد أن يراها، فيجد في كل شيء روحًا من الشعر، ويقرأ لمحاتها متى التمعت، وكان يعيش في ذات نفسه كأنه معنى في قصيدة هو أمير أبياتها.
فشاعرنا هذا أخرجه اثنان: الظرف والجمال؛ وهذا سر إبائه أن يعد من الشعراء؛ لأنه أرفع من أن يدخل بينهم في هذه المحنة والبلوى التي ابتلوا بها ...
ولقد هم صبري في أواخر عمره بمحو شعره لو أنه كان في منال يده على أنه محا منه بإهماله أكثر مما أثبت؛ وعلمت منه أنه لم يدون شيئًا، وأنه ينسى متى انتهوا إلى التحقيق رأوا عمرهم كله بداية ورأوا ما فعلوا باطلًا فغسلوا كتبهم أو أحرقوها، ولكنا لم نعرف هذه الطبيعة في شاعر بعد عصر الكتابة والتدوين، وإن كان بعضهم يأنف لنفسه أن يعد من الشعراء وهو مع ذلك يجمع يده على شعره، كالشريف الرضي الذي يقول:
ما لك ترضى أن تعد شاعرًا ... بعدًا لها من عدد الفضائل
ويقول في مدح أبيه:
إني لأرضى أن أراك ممدحًا ... وعلاك لا ترضى بأني شاعر
ومثله أبو طالب المأموني وآخرون يدعون ذلك دعوى وفي ألسنتهم ما ليس في قلوبهم.