ولإفراط صبري في الظرف والجمال وقيام شعره على هذين الركنين، جاء مقلًّا من أصحاب القصار، وزاد إقلاله في قيمة شعره، فخرجت مقاطيعه مخرج الشيء الطريف الذي يتعجب منه في وجوده أكثر مما يتعجب منه لقلة وجوده؛ وبذلك ربح تعب المكثرين والمطيلين؛ إذ كان لا يقول إلا فيما تؤاتيه السجية وينزع الطبع، فيدنو مأخذه ويكثر بقليله ويرمي منه بمثل الحجة والبرهان، فيطمس بهما على كلام طويل وجدل عريض.
ولا يعيب المقل أنه مقل إذا كثرت حسناته، بل ذلك أعون له على القلوب والنفوس إذا أصابت في شعره ما يغريها بطلب المزيد منه؛ وقد عدوا بين المقلين في الجاهلية: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد، وسلامة بن جندل، وحصين بن الحمام، والمتلمس، والحارث بن حلزة، وابن كلثوم، وغيرهم أتينا على أسمائهم في الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب"؛ ومن أولئك من يعرف بالقصيدة الواحدة: كطرفة، ومنهم من يعرف بثلاث قصائد: كعلقمة، أو بأربع: كعدي بن زيد؛ ومنهم من يعرف بالأبيات المتفرقة، ولا عبرة بما ينسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير؛ وقد يعرفون الشاعر بالبيت الفرد؛ لأن العرب إنما يعتبرون الشعر بمقدار ما يحرك من ميزانه الطبيعي الذي هو القلب، لا بالطول ولا بالقصر، وقد قالوا في بيت النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث؛ أي الرجال المهذب؟
إنه لا نظير له في كلام العرب؛ وما ذلك إلا على الاعتبار الذي أشرنا إليه. وكانوا يسمون البيت الواحد: يتيمًا، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمي قصيدًا.
وكان من الشعراء من يعتمد أن لا يجيء في شعره الجيد بغير البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، كشاعرنا صبري باشا؛ ومنهم عقيل بن علقمة: كان يقصر هجاءه ويقول: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومنهم أبو المهوس، وكان يحتج لذلك بأنه لم يجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم يجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا؛ ومنهم الجماز: قال له بعضهم وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة؟؟ وابن لنكك المصري، وابن فارس، ومنصور الفقيه الذي كان يقال فيه: إذا رمح بزوجيه قتل. ولا نستقصي في هذا فلندعه فإن له موضعًا.
غير أن صبري كان له مع جودة المقاطيع جودة القصيد إذا قصَّد، كقوم