عرفوا بذلك في التاريخ، منهم العباس بن الأحنف وسواه، وكان من أسباب إقلاله ما أعلمني به من أن طريقته في أكثر ما ينظم معارضة معنى يقف عليه، أو تضمين حكمة، أو ضرب مثل على طريقة النظر والملاحظة، أو تدوين خطرة عرضت له، أو لمحة أوحيت إليه؛ وهو ينزل في ذلك على النصفة والمعدلة فلا ينتحل شيئًا ليس له، بل يدلك بنفسه على الأصل الذي منه أخذ أو المثال الذي عليه احتذى.
قال لي مرة: إن البستاني عقد حكمة فارسية في قوله:
قضيت إلهي بالعذاب فيا ترى ... بأي مكان بالعذاب تدين
وليس عذاب حيثما أنت كائن ... وأي مكان لست فيه تكون؟
ثم قال: فأخذت من هذا المعنى وقلت:
يا رب أين ترى تقام جهنم ... للظالمين غدًا وللأشرار
لم يبق عفوك في السموات العلى ... والأرض شبرًا خاليًا للنار
يا رب ألهني لفضلك واكفني ... شطط العقول وفتنة الأفكار
ومُرِ الوجود يشف عنك لكي أرى ... غضب اللطيف ورحمة الجبار
يا عالم الأسرار حسبي محنة ... علمي بأنك عالم الأسرار
والفرق بين الشعرين أن البستاني جاء بكلامه على طريقة المتصوفة التي يسمونها طريقة أهل التحقيق، كابن العربي والششتري؛ وأما صبري فانظر كيف استوفى وكيف لاءم وكيف امتلأت أعطاف شعره. وقد يأخذ المأخذ الدقيق الذي لا ينتبه له إلا المطَّلع الحاذق بصناعة الكلام، كقوله:
إذا ما صديق عقني بعداوة ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي
تعرض طيف الود بيني وبينه ... فكسر سهمي فانثنيت ولم أرم
فهذا ينظر إلى قول الحارث بن وعلة:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
ولكنه ليس بذاك؛ فإن أساس المعنى قوله: "تعرض طيف الود بيني وبينه" وهو من قول العباس بن الأحنف:
وإذا ما مددت طرفي إلى غيـ ... ـرك مثِّلت دونه فأراكا
فتأمل كيف أبدع في انتزاع المعنى وكيف جعل له معرضًا جديدًا وكيف أداه أحسن تأدية في ألطف وجه كأنه شيء مخترع.