للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن شعره السائر قوله في العناق وتلازم الحبيبين:

ولما التقينا قرب الشوق جهده ... شجيين فاضا لوعة وعتابا

كأن صديقًا في خلال صديقه ... تسرب أثناء العناق وغابا

وهذا المعنى على إبداعه فيه متداول، وأصله لبشار -أظن- في قوله١:

وبتنا جميعًا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرب

فأبدع صبري في أخذه وجعل من هذه الزجاجة المنصدعة جوهرة تتألق؛ على أني لا أستحسن قوله: "كأن صديقًا ... " فما هذا بعناق الأصدقاء، ولو كان الصديق راجعًا من سفر الآخرة؛ وإذا غاب واحد في الآخر، فالآخر حامل به ... وقد أخذت أنا هذا المعنى منه، ولولاه ما اهتديت إليه، فقلت في ذلك:

ولما التقينا ضمنا الحب ضمة ... بها كل ما في مهجتينا من الحب

وشد الهوى صدرًا لصدر كأنما ... يريد الهوى إنفاذ قلب إلى قلب

وأحسن ما تجد شعر صبري في الغزل والنسيب والوصف والحكمة، فهي عناصر قلبه وذوقه، ولا يتصرف معه أقوى ما يتصرف إلا في هذه الأغراض، ولعله إن جاوزها قصر معه شيئًا ما وضعفت أداته ضعفًا ما؛ لأنه يكون شاعر الصنعة وهو يأباها ويكره أن يكون شاعرًا من أجلها؛ وقلما يجاريه أحد في تلك الأغراض، وهو الذي فتح أبوابها؛ وحسبك أنه المثال الذي احتذى عليه شوقي بك؛ وقد ينقسم المعنى الواحد في رجلين حين يقدر، فإذا لم يوجد أحدهما لم يوجد الآخر، وأنا أرى وأعلم أنه لولا صبري لما نبغ شوقي، وكان هذا يختلف إليه يعرض عليه شعره ويرجع بآثار ذوقه فيه، وكذلك كان يفعل خليفة البارودي حافظ بك إبراهيم، واسترفد شوقي من صبري باشا هذا البيت السائر:

صوني جمالك عنا إننا بشر ... من التراب وهذا الحسن روحاني


١ البيت لعلي بن الجهم، وقبله:
ألا رب ليل ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤادًا من فؤاد معذب
أخذه من قول بشار:
ومرتجة الأعطاف مهضومة الحشا ... تمور بسحر عينها وتدور
إذا نظرت صبت عليك صبابة ... وكادت قلوب العاشقين تطير
خلوت بها لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور

<<  <  ج: ص:  >  >>