للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النهضة بشعر الشاعر، وأن يكون في شعره العنصر الناري من اللغة الشعبية.

على أن "حافظ" -رحمه الله- أدرك كل هذا في آخر عهده، فكان يريد أن يميت ديوانه ويستخرج منه جزءًا صغيرًا يختار فيه ألف بيت ويسقط ما عداها وإن ... وإن كان فيه شعر اجتماعي ... ومع هذا النقص الذي بعثت عليه طبيعة الزمن وطبيعة الشاعر معًا، فإن تمام حافظ في مذهبه الاجتماعي الذي نبغ فيه جاء من وراء القوة وفوق الطاقة، لا يجاريه فيه شاعر آخر، بحيث دل على أن النابغة قدر إلهي لا ينقص من عظمته أن يكون حادثة واحدة تدوي دويها في الدنيا، فهو ميسر منذ نشأته لما خلق له من ذلك، فأحكمته المدرسة الحربية، ثم قيده الجيش، ثم تقاذفه السودان، ثم قذف به الظلم، ثم تولاه إمام عصره الشيخ محمد عبده، وهو كذلك في غاياته الوعرة ومقاصده العمرانية ومعاناته لإصلاح- مدرسة حربية وجيش وفلاة، فلم يكن حافظ إلا الصوت الإنساني الذي أعد بخصائصه للتعبير عن حوادث أمته وخصائصها، وكأنه في نقلته من السودان إلى مصر قد انتقل من جيش يحارب الأقوام الأعداء لأمته، إلى جيش آخر يحارب المعاني الأعداء لأمته.

ولد حافظ إبراهيم سنة١٨٧١، وكان الكتاب الأول الذي هداه إلى سر الأدب العربي وأرهف ذوقه وأحكم طبيعته، هو كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ حسين المرصفي، المطبوع في مصر لخمس وخمسين سنة؛ ففي هذا الكتاب قرأ حافظ خلاصة مختارة محققة من فنون الأدب العربي في عصوره المختلفة ودرس ذوق البلاغة في أسمى ما يبلغ بها الذوق، ووقف على أسرار تركيبها، وعرف منه الطريقة التي نبغ بها البارودي، وهي قراءته دواوين فحول الشعراء من العرب ومن بعدهم، وحفظه الكثير منها؛ فبنى شاعرنا من يومئذ قريحته على الحفظ، ولم يزل يحفظ إلى آخر عمره؛ إذ كانت قريحته كآلة التصوير: لا تنبه لشيء إلا علقته وهذا سبب من أسباب ضعف خياله، ولكنه رد عليه من القوة في اللغة ما تناهى فيه إلى الغاية.

واتفق لذلك العهد أن طبعت لزوميات المعري في مصر، فتناولها حافظ واستظهر أكثرها، فكانت باعث ميله ونزعته إلى الشعر الاجتماعي؛ والفرق بين حافظ وبين المعري في الموهبة الفلسفية هو الذي نفذ بالمعري إلى أسرار كثيرة ووقف بحافظ عند الظاهر وما حوله، يطير هناك ويقع.

وقد كان صاحبنا ضعيف من هذه الناحية، فاستصعبت عليه أسرار واستغلقت أخرى من أسرار الخير والشر في الحياة، والجمال والحسن في الخليقة، والجلال

<<  <  ج: ص:  >  >>