للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإبداع في الكون، والإقرار والشك في كل ذلك؛ وقد بلغ المعري من هذا مبلغًا لا بأس به، إلا أنه لم يصف كما تصفي الأشياء في عين مبصرة؛ فخبط وخلط؛ ووضع من أغراض نفسه المريضة على الصحيح والمريض جميعًا. وتابعه حافظ في طريقة أخرى سنشير إليها بعد.

وفتن شاعرنا بما قرأ في "الوسيلة" من شعر البارودي، فأصبح من يومئذ تلميذه، وسار على نهجه في قوة اللفظ وجزالة السبك ومتانة الصنعة وجودة التأليف على نغم الألفاظ وأجراس الحروف، ولكنه لم يدرك شأو البارودي في ذلك؛ لأن هذا جمع من دواوين الشعراء وكتب الأدب ما لم يتفق لغيره في عصره، وأدخل في شعره أحسن ما صنعت الدنيا في ألف سنة من تاريخ البلاغة العربية؛ ولذا انتقل عنه حافظ إلى طريقة مسلم بن الوليد في التصنيع ولزمها إلى آخر مدته.

وابتدأ يعالج الشعر في السودان وينظم في جنس ما هو بسبيله من وصف الهم المستولي عليه من جميع جهاته؛ إذ كان يتيمًا فقيرًا مشردًا، ويرى نفسه شاعرًا تصده الحياة عن منزلة الشاعر وعن أمكنة الشعر، كالذي غصب ميراثه من عرش وملك، ونفي إلى غير أرضه، ووضعت روحه بإزاء روح الفقر وقيل لها: عدو ما من صداقته بد.

ثم جاء إلى مصر واتصل بالإمام الشيخ محمد عبده، واستقال من الجيش وفرغ للأدب؛ فبدأ من ثم تكوينه الأدبي المندمج المحكم، أما قبل ذلك إلى سنة ١٩٠١ التي طبع فيها الجزء الأول من ديوانه، فكان شعره قليلًا ظاهر التكلف، وأكثره يدل على طريقة مضطربة لم تستحكم، وفكر لم ينضج، وموهبة في التوليد الشعري بينها وبين الاستقلال أمد قريب.

ودرس في مدرسة الشيخ محمد عبده من سنة ١٨٩٩ إلى سنة ١٩٠٥، وهذا الإمام -رحمه الله- كان من كل نواحيه رجلًا فذًّا، وكأنه نبي تأخر عن زمنه؛ فأُعطي الشريعة، ولكن في عزيمته، ووُهب الوحي ولكن في عقله، واتصل بالسر القدسي ولكن من قلبه؛ ولولا هو ولولا أنه بهذه الخصائص، لكان حافظ شاعرًا من الطبقة الثانية، فإنه من الشيخ وحده كانت له هذه القوة التي جعلته يصيب الإلهام من كل عظيم يعرفه، وكان له من أثرها هذا الشعر المتين في وصف العظماء والعظائم وهو أحسن شعره.

ولم يجد حافظ من قومه ما يجعله لسانهم حتى تنطقه بالوحي نفسيتهم التاريخية الكبرى، ولا تولاه ملك أو أمير يرغب في أدبه رغبة أديب ملك، أو

<<  <  ج: ص:  >  >>