للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معروفة ذكرها ابن حجة الحموي في كتابه "خزانة الأدب"، وهي من وصية أبي تمام البحتري، وكان المتنبي يعمل عليها؛ وبالجملة فإن "حافظ" يرتهن فكره بالقصيدة التي ينظمها ويتوفر عليها وعلى أسبابها، لا كما يفرغ الشاعر للشعر، ولكن كما يتوفر المؤلف العظيم على كتاب يؤلفه، وهو كذلك يبطئ في نثره أكثر مما يبطئ في الشعر، دلني بنفسه رحمه الله على صفحة في الجزء الثاني من ترجمة البؤساء، وقال: إنه ترجمها بخمسة عشر يومًا*.

وحضرته مرة يترجم أسطرًا من الجزء الأول "في قهوة الشيشة" يخطها في دفتر صغير دون حجم الكف، فاجتمعت له ثلاثة أسطر في ثلاث ساعات، وهذا لا يعيبه ما دام يريد قسط الفن، وما دام يحاول أن يخرج الكلمات من عالمها إلى عالمه هو المتموج من الألفاظ والعبارات بمثل الكواكب في الاستواء والجاذبية والشعاع والرونق والجمال.

ويرى مع الصناعة أن يكون سبك شعره سبك البدوي المطبوع: جزلًا سهلًا مشرقًا ممتلئًا متعادل الأجزاء والتقاسيم، يرن رنينًا كأنما قذفت به سليقة أعرابي فصيح، تحت ضوء كواكب البادية، على برد الرمل، في نسمات الليل، حين تمتلئ تلك النفس البدوية بحنين الحب، أو شوق الجمال، أو عظمة القوة؛ وهذا هو الأصل الذي اتبعه، وقفني عليه هو بنفسه في سنة١٩٠٢، وقرظني به في الجزء الأول من ديواني فقال:

أنت والله كاتب حضريُّ ... إن عددناك شاعرًا بدويَّا

ولو أنك أجريت شعر حافظ في أبلغ ما قاله المطبوعون من الأعراب وشعراء القرن الأول، لالتأم به وزاد عليه في الصناعة وبعض المعنى؛ وقل أن تجد في شعره كلمة ينبو بها مكانها، إلا ألفاظًا قليلة كان يستكرهها، يحسب أنه يستطرف منها ويرى في غرابتها جديدًا؛ وهذا من خطأ رأيه في الأسلوب؛ لأنه مع بلاغته كان ينقصه أن يكون فيلسوفًا في البلاغة، وأنا أرى أنه لو تمت له الموهبة الفلسفية لما جاراه شاعر آخر، ولكن الكمال عزيز في البشرية؛ وقد عرفت رأيه في الأسلوب في سنة ١٩٠٦، إذ نشرت له مجلة الأقلام التي كان يصدرها صاحبنا الأديب جورج طنوس كلمات كان يريد أن يضمنها كتابه "ليالي سطيح"، أظهر فيها


* لما أهدي إلي هذا الجزء كنا قبل الظهر، فلم يدعني حتى قرأته كله معه إلى العصر وكتبت عنه في المقطم بعد ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>