للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رأيه في الشعراء، فقال في إسماعيل صبري: يقول الشعر لنفسه لا للناس، وفي شوقي: أرق الشعراء، طبعًا وأسماهم خيالًا وفي مطران: أسرعهم بديهة وأقدرهم ابتكارًا. وقال فيَّ -ولم يكن مضى علي إلا ست سنين في طلب الأدب: مكثار راقي الخيال بعيد الشوط في ميادين الأدب، غير ناضج الأسلوب. فلما اجتمعت به فاتحته في ذلك وسألته رأيه في الأسلوب الناضج، فلم أر عنده طائلًا، وكل ما قاله في ذلك: أن الشيخ عبد القاهر الجرجاني قرر أن البلاغة ليست في اللفظ ولا في المعنى، ولكنها في الأسلوب. وعبد القاهر لم يقل هذا ولا قاله غيره، فإن الأسلوب عنده "طريقة مخصوصة في نسق الألفاظ بعضها على بعض لترتيب المعاني في النفس وتنزيلها"، و"أن المنزلة من حيز المعاني دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك".

وقد قررت أن للألفاظ ما يشبه الألوان، فليست كلها زرقاء ولا صفراء ولا حمراء، ورب لفظة رقيقة تقع ضعيفة في موضع فيكون ضعفها في موضعها ذاك هو كل بلاغتها وقوتها، كفترة السكوت بين أنغام الموسيقى: هي في نفسها صمت لا قيمة له: ولكنها في موضعها بين الأنغام نغم آخر ذو تأثير بسكونه لا برنينه؛ وهذا من روح الفن في الأسلوب.

وأدرك شاعرنا من يومئذ ما سميته "قوة الضعف"، ولعل هذا هو السبب في أن طبعه رجع يعدل به إلى التسهيل، حتى أنه لتقع في شعره أبيات متهافتة فيأتي بها ولا ينكرها؛ ولقيني مرة فأنشدني قول الشاعر:

نا لم أرزق محبتها ... إنما للعبد ما رزقا

وجعل يعجني من بلاغة قوله "لم أرزق" وأنها مع ذلك ضعيفة مبتذلة تجري في منطق كل عامي، قلت: ولكن "محبتها" جعلتها كمحبتها ...

وضعف الموهبة الفلسفية في حافظ عوضه ناحية أخرى من أقوى القوة في الشعر، وهي اهتداؤه إلى حقيقة الغرض الذي ينظم فيه، وتركه الحواشي والزيادات، وانصراف قواه إلى دقة الوصف حين يصف، وتعويله على إحساسه أكثر من تعويله على فكره؛ فزاد ذلك في رونق شعره ومائة، ونحا به منحى المطبوعين، فخرج يتدفق سلاسة وحلاوة، ممتلئًا من صواب المعنى وبلاغة الأداء وقوة التأثير؛ وبهذا نبغ في الرثاء ووصف الفجائع نبوغًا انفرد به، حتى لأحسب أن

<<  <  ج: ص:  >  >>