للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول في رثاء غيره:

واخْبُوَاه الأكفان من ورق المصـ ... ـحف كبرًا عن أنفس الأبرار

وهذان أيضًا كالصعاليك عند قول حافظ في البارودي:

لو أنصفوا أودعوه جوف لؤلؤة ... من كنز حكمته لا جوف أخدود

وكفنوه بدرج من صحيفته ... أو واضح من قميص الصبح مقدود

مع أن "حافظ" ألمَّ بقول المعري. ومن بديع ما اتفق له في قصيدة "الأمتان تتصافحان" قوله يصف السوريين:

رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرة ركبًا صاعدًا ركبوا

أو قيل في الشمس للراجين منتجع ... مدوا لها سببًا في الجو وانتدبوا

فاقرأ هذين وأقرأ بعدهما قول المتنبي في سيف الدولة:

وصول إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا

فإنك تجد بيت المتنبي صعلوكًا على بيتي حافظ، مع أنه المبتدع السابق.

وأعجب ما عجبت له هذا البيت من شعر صاحبنا في مقطوعة يخاطب بها الأمريكان، نشرها في المقطم من ثلاث سنوات أو نحوها، قال:

وتخذتم موج الأثير بريدا ... حين خلتم أن البروق كسالى

واتفق يومئذ أن كنت جالسًا في زيارة الصديق الأستاذ فؤاد صروف محرر المقتطف، فجاء حافظ، فلم يكد يصافحني حتى قال: كيف ترى هذا البيت: وتخذتم موج الأثير بريدا ... الخ؟ فأثنيت عليه الذي يهوى، وهنأته بهذا المعنى، وأظهرت له ما شاء من الإعجاب، ولكني أضمرت عجبي من حسن ما اتفق له فإن الجمال الشعري في البيت إنما هو في استعارة الكسل للبروق، وهذا بعينه من قول ابن نباتة السعدي في سيف الدولة:

وما تمهل يومًا في ندى وردًى ... إلا قضيت للمح البرق بالكسل

غير أن "حافظ" نقل المعنى إلى حقه، ومكن له أحسن تمكين في صدر كلامه، وأتم جماله في قوله "حين خلتم"، فاقتطع المعنى وانفرد به، وعاد معنى السعدي كالصعلوك على باب بيته؛ وكانت هذه المقابلة في المقتطف آخر عهدي بحافظ، فلم أره من بعدها؛ رحمه الله!

وما مر بك إنما كان من صناعة الشعر في غير الجزء الأول من ديوانه بعد

<<  <  ج: ص:  >  >>