للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن استفحل وتخرج في مدرسة الإمام، أما في الجزء الأول فله هو صعاليك ... كقوله في الخمر:

خمرة قيل إنهم عصروها ... من خدود الملاح في يوم عرس

فهذا البيت صعلوك عند قول ابن الجهم:

مشعشعة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها

وقول حافظ: "عصروها في خدود الملاح" كلام من لم ينضج في البيان ولا الذوق، لا يكاد يتوهم معه إلا أن في خدود الملاح "خراجات" عصرت ...

وعلى ضد هذا قول ابن الجهم: "تناولها من خده"، فهي كلمة أكثر نعومة من ذلك الخد وأجمل نضرة.

وقول حافظ في مدح الخديو:

يا من تنافس في أوصافه كلمي ... تنافس العرب الأمجاد في النسب

فهو صعلوك على بيت أبي تمام:

تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل

ولا نطيل الاستقصاء، فإنما نريد التمثيل حسب.

وكان الشاعر أول نشأته يأخذ في طريقة المعري الذي عمي عن الطبيعة فجعل يخلقها من فكره ومحفوظه بمبالغات كاذبة يغرق فيها يحسب أنه بذلك يعظم الحقائق فتخرج له الأخيلة الكبيرة، وما يدري أنه بهذا الغلو لا يجيء إلا بالأباطيل الكبيرة ... ولكن حافظ في مزاجه وتركيبه ونشأته كان رجلًا مبنيًا على الوضوح والقصد. فلم يفلح في طريقة المعري؛ ووضوحه كذلك باعده من الفلسفة وإبهامها، ومن الطبيعة وألغازها، ومن الغزل ووساوسه؛ وهو الذي أداه إلى الشغف بالحقيقة واستخلاصها في كل أغراضه التي أجاد فيها؛ ومن ثم خلا شعره أو كأنه خلا ... من أوصاف الطبيعة في جمالها بلغة الفكرة المتأمل، ومن أوصاف الجمال في سحره بلغة القلب العاشق.

وأنت فلا تحسبن الشاعر يجيد في الغزل والنسيب من أنه شاعر يحسن الصنعة ويجيد الأسلوب، فيكون غرض من الشعر سبيلًا إلى غرض، وفن عونًا على فن، وتكون رقة الألفاظ وهلهلة النسج، وقلبي، وكبدي، ويا ليلة ويا قمرًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>