للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويا غزالًا ... وأشباه ذلك- غزلًا ونسيبًا؛ كلا ثم كلا، والثالثة كلا أيضًا....

إن الغزل وأوصاف الجمال موهبة في الشاعر أو الكاتب تسخر لها قوى هي أشبه في معجزاتها بما سخر لسليمان من قوى الجن والريح، غير أنها قوى آلام ولذات ووساوس؛ تلك عظمة في بعض النفوس الشاعرة كعظمة الملوك والأبطال، غير أنها لا تكمل إلا خائبة أو مغلوبة، فإذا انتصرت سقطت فلا بد لها من تاريخ وحوادث ومزاج عصبي يهيئ لها بروحانية شديدة الحس شديدة الفورة ثائرة أبدًا لا تهدأ إلا على توليد معنى بديع في جمال من تحبه أو كجماله؛ ثم إذا هدأت بذلك أثارها أنها هدأت، فتعود إلى التوليد، فلا تزال تبتدع وتصف كأنها آلة تعبير تدور بقلب وعصب؛ هناك قوتان: إحداهما توتي الحب كما يصلح غرامًا وعشقًا، والأخرى فوق هذه تؤتي الحب كما يصلح فكرًا وتعبيرًا؛ والأولى تجعل صاحبها عاشقًا يحب ويدرك ليس غير، والثانية تجعله محبًا عمله أن ينقل من لغة ما في نفسه إلى ما حوله، ومن لغة ما حوله إلى ما في نفسه؛ فهو مترجم النفس إلى الطبيعة، ومترجم الطبيعة إلى النفس؛ والذي أعرفه أن "حافظ" لم يرزق لا هذه ولا تلك، فلا طبيعة فيه للغزل وفلسفة الجمال؛ ثم إن التاريخ حصره في "الشاعر الاجتماعي" الذي اختار أن يمتاز به، فهو في أكثر شعره كان ليس فيه شخص، بل فيه شعب مأسور غفل عن الجمال وعن الطبيعة وعن النشوة بهما؛ إذ يعيش في معاناة الحرية لا في التأمل الجميل، وفي أسباب القوة لا في أسباب الرقة، ويريد أن يعمل؛ ليوجد حقيقته قبل أن يعمل؛ ليبدع خياله.

ومع ذلك فقد جاء في ديوان حافظ غزل قليل كان كله متابعة وتقليدًا في فن يحسن التقليد إلا فيه خاصة؛ عمل صدرًا لقصيدة مدح بها الخديو مطلعها:

كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم

وقلد ابن أبي ربيعة في حكاية حب لفقها تلفيقًا ظاهرًا، ثم زعم أن الحبيبة قالت له في آخرها:

فاذهب بسحرك قد عرفتك واقتصد ... فيما تزيَّن للحسان وتوهم

وكلمة صاحبة ابن أبي ربيعة:

أهذا سحرك النسوان ... قد عرفتني الخبرا

أهذا سحرك النسوان؟ ... هذه كلمة لا تخرج إلا من فم حبيبته آية في الظرف، وفيها تجاهلها وعرفانها وابتسامها وإشراق وجنتيها، وأكاد والله أرى فيها

<<  <  ج: ص:  >  >>