للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تلك الجميلة وهي تدق بيدها على صدرها دقة الاستفهام المتدلل المتظاهر بالدهشة؛ ليتنهد فيه الكلام والمتكلم معًا، أما قول حبيبة حافظ الخشبية، أو الحجرية ... اذهب ... قد عرفتك واقتصد ... فهذا خليق أن يكون من فم قاضٍ وهو ينصح المتهم بعد الأمر بالإفراج عنه ... أو مأمور قسم عند ضبط الحادثة!

أكبر ظني أن روح حافظ نفسه هي التي أوحت إلى الآن هذه "النكتة"، فإنه -رحمه الله- كان آية في الباب، وله من النوادر محفوظة ومخترعة ما لا يلحق فيه؛ ولو كان كاتبًا على قدر ما كان شاعرًا، وزاول النقد واستظهر للكتابة فيه بتلك الملكة المبدعة في التندر والتهكم، مع ما أوتي من القوة في اللغة والبيان -لكانت النعمة قد تمت به على الأدب العربي، ولقلنا في شعره وكتابته وأدبه ما قال هو في الأستاذ الإمام:

فأطلعت نورًا من ثلاث جهات

وما دمنا قد ذكرنا النقد فمن الوفاء للتاريخ الأدبي أن نذكر مذهب شاعرنا فيه: فلم يكن عنده منه إلا ذوق الكلام، وإدراك النفرة والنبوة في الحرف، والغلظ والجسأة في اللفظ، والضعف والتهافت في التركيب، ثم ما يجيش في الخاطر أو يتلجلج في الفكر من ذوق المعنى وإدراك كنهه والنفاذ إلى آثار النفس الحية فيه؛ فكأن النقد هو الحس بالكلام كما تلمس الحار والبارد وما بينهما؛ ووصف لي مرة إسماعيل صبري باشا وأراد أن يبالغ في دقة تمييزه وحسن بصره بالشعر وإدراكه دقائق المعاني، فقال: "ذواق يا مصطفى" ولم يزد.

ومذهب الحس بالكلام هذا وإن صلح أن يكون من بعض معاني النقد، فلا يتهيأ أن يكون هو النقد بمعناه الفلسفي أو الأدبي، وهو في جملة أمره كقولك حسن حسن؛ وردي رديء، أما كيف كان حسنًا أو رديئًا، وبماذا ولماذا، فذلك ما لا سبيل إليه من مذهب "ذواق" ... ولا وسيلة له إلا العلم المستفيض، والاطلاع الواسع، والحس المرهف، والقدرة المتمكنة، مضافة كلها إلى الأدب البارع وفلسفته الدقيقة؛ ولا نعرف لحافظ كتابة في النقد البتة، وقد كان حاول شيئًا من هذا في مقدمة كتابه "ليالي سطيح"، فتناول بعض خصومه بكلمات رأى هو أن يمحوها بعد أن طبعت الكراسة الأولى، فأسقطها وأعاد كتابة المقدمة وطبعها مرة ثانية، وكانت عندي النسخة التي محاها، وهذا ما لا أظن أحدًا يعرفه الآن؛ رحم الله شاعرًا كان أصفى من الغمام، وكان شعره كأنه البرق والرعد ...

<<  <  ج: ص:  >  >>