للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولما كان غد جاء الناس أرسالًا إلى المسجد، حتى اجتمع منهم الجمع الكثير. قال عبد الرحمن بن عبد الله أبي عمار: وكنت رجلًا شابًّا من فتيان المدينة، وفي نفسي ومن الدنيا ومن هوى الشباب، فغدوت مع الناس، وجئت وقد تكلم أبو محمد وأفاض، ولم أكن رأيته من قبل، فنظرت إليه فإذا هو في مجلسه كأنه غراب أسود، إذ كان ابن أمة سوداء تسمى "بركة" ورأيته مع سواده أعور أفطس أشل أعرج مفلفل الشعر، لا يتأمل المرء منه طائلًا، ولكنك تسمعه يتكلم فتظن منه ومن سواده -والله- أن هذه قطعة ليل تسطع فيها النجوم، وتصعد من حولها الملائكة وتنزل.

قال: وكان مجلسه في قصة يوسف عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} .

قال عبد الرحمن: فسمعت كلامًا قدسيًّا تضع له الملائكة أجنحتها من رضى وإعجاب بفقيه الحجاز. حفظت منه قوله:

عجبًا للحب! هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس؛ ولكن أين مُلكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي} و {الَّتِي} هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت؛ فلم يبق على الحب مُلك ولا منزلة؛ وزالت الملكة من الأنثى!

وأعجب من هذا كلمة {وَرَاوَدَتْهُ} وهي بصيغتها المفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة جعلت تعترض يوسف بألوان من أنوثتها, لون بعد لون؛ ذاهبة إلى فن، راجعة من فن؛ لأن الكلمة مأخوذة من رَوَدَان الإبل في مشيتها؛ تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها؛ ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها؛ كما يصور كبرياء الأنثى إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها؛ فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا "الشيء الآخر" مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة.

ثم قال: {عَنْ نَفْسِهِ} ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرحة في أدب سام كل السمو، منزه غاية التنزيه بما معناه: "إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغرائه

<<  <  ج: ص:  >  >>