للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتصبنيه، مقبلة عليه ومتدللة ومتبذلة ومنصبة من كل جهة، بما في جسمها وجمالها على طبيعته البشرية، وعارضة كل ذلك عرض امرأة خلعت -أول ما خلعت- أمام عينيه ثوب الملك".

ثم قال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} ولم يقل "أغلقت" وهذا يشعر أنها لما يئست، ورأت منه محاولة الانصراف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالًا عدة، وتجري من باب إلى باب، وتضطرب يدها في الأغلاق، كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط.

{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده, فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد اهتياجها وغليانها.

هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلة من أعلاها إلى أسفلها. فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه بدأت من ثم عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ} ثم قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: ٢٣] ثم قال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: ٢٣] . وهذه أسمى طريقة إلى تنبيه ضمير المرأة في المرأة، إذ كان أساس ضميرها في كل عصر هو اليقين بالله، ومعرفة الجميل، وكراهة الظلم. ولكن هذا التنبيه المترادف ثلاث مرات لم يكسر من نزوتها، ولم يَفْثَأ تلك الحدة، فإن حبها كان قد انحصر في فكرة واحدة اجتمعت بكل أسبابها في زمن, في مكان, في رجل. فهي فكرة محتبسة كأن الأبواب مغلقة عليها أيضًا؛ ولذا بقيت المرأة ثائرة ثورة نفسها. وهنا يعود الأدب الإلهي السامي إلى تعبيره المعجز فيقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: ٢٤] كأنما يومئ بهذه العبارة إلى أنها ترامت عليه، وتعلقت به، والتجأت إلى وسيلتها الأخيرة، وهي لمس الطبيعة بالطبيعة لإلقاء الجمرة في الهشيم!

جاءت العاشقة في قضيتها ببرهان الشيطان يقذف به في آخر محاولته. وهنا يقع ليوسف -عليه السلام- برهان ربه كما وقع لها هي برهان شيطانها. فلولا برهان ربه لكان رجلًا من البشر في ضعفه الطبيعي.

قال أبو محمد: وههنا ههنا المعجزة الكبرى؛ لأن الآية الكريمة تريد ألا

<<  <  ج: ص:  >  >>