أصحاب دواوين صغيرة، وليس في شعرهم إلا طابع النيل، أي الرقة والحلاوة لولا هؤلاء في المتقدمين لأجدب تاريخ الشعر في مصر؛ ولولا البارودي وصبري وحافظ في المتأخرين؛ وكلهم كذلك أصحاب دواوين صغيرة، لما ذكرت مصر بشعرها في العالم العربي؛ على أن كل هؤلاء وكل أولئك لم يستطيعوا أن يضعوا تاج الشعر على مفرق مصر، ووضعه شوقي وحده!
والعجب أن دواوين المجيدين من شعراء المصريين لا تكون إلا صغيرة، كأن طبيعة النيل تأخذ في المعاني كأخذها في المادة، فلا فيض ولا خصب إلا في وقت بعد أوقات، وفي ثلاثة أشهر من كل اثني عشر شهرًا؛ ومن جمال الفراشة أن تكون صغيرة، وحسبها عند نفسها أن أجنحتها منقطة بالذهب، وأنها هي نكتة من بديع الطبيعة!
على أنك واجد في تاريخ الأدب المصري عجيبة من عجائب الدنيا لا تذكر معها الإلياذة ولا الإنيادة ولا الشاهنامة ولا غيرها، ولكنها عجيبة ملأتها روح الصحراء إن كانت تلك الدواوين الصغيرة من روح النيل؛ وهي قصيدة نظمها أبو رجاء الأسواني المتوفى سنة ٣٣٥هـ، وكان شاعرًا فقيهًا أديبا عالمًا كما قالوا، وزعموا أنه اقتص في نظمه أخبار العالم وقصص الأنبياء واحدًا بعد واحد، قالوا: وسئل قبل موته كما بلغت قصيدتك؟ فقال: ثلاثين ومائة ألف بيت.... وما أشك أن هذا الرجل وقع له تاريخ الطبري وكتب السير وقصص الإسرائيليات فنظمها متونًا متونًا ... وأفنى عمره في ١٣٠ ألف بيت حولها التاريخ إلى خبر مهمل في ثلاثة أسطر١.
كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء، ولكن شوقي جزء من كل، والفرق بين الجزأين أن الأخير في قوته وعظمته وتمكنه واتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل؛ ولم يترك شاعر في مصر قديمًا وحديثًا ما ترك شوقي، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لسواه؛ وذلك من الأدلة على أنه هو المختار لبلاده، فساوى الممتازين من شعراء دهره وارتفع عليهم بأمور كثيرة هي رزق تاريخه من القوة المدبرة التي لا حيلة لأحد أن يأخذ منها ما لا تعطي، أو يزيد ما تنقص، أو ينقص ما تزيد؛ وقد حاولوا إسقاط شوقي مرارًا فأراهم غباره ومضى متقدمًا،