ورجع من رجع منهم ليغسل عينيه ... ويرى بهما أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر، وما هو بمنزلة شاعر وشعره.
ولد شاعرنا سنة ١٨٦٨ في نعمة الخديو إسماعيل باشا، ونثر له الخديو الذهب وهو رضيع في قصة ذكرها شوقي في مقدمة ديوانه القديم، ثم كفله الخديو توفيق باشا وعلمه وأنفق عليه من سعة، وأنزل نفسه منه منزلة أب غني كما يقول شوقي في مقدمته، ثم تولاه الخديو عباس باشا وجعله شاعره وتركه يقول:
شاعر العزيز وما ... بالقليل ذا اللقب
وإذا أنت فسرت لقب شاعر الأمير هذا بالأمير نفسه في ذلك العهد، خرج لك من التفسير: شاعر مرهف معانٌ بأسباب كثيرة؛ ليكون أداة سياسية في الشعب المصري، تعمل لإحياء التاريخ في النفس المصرية، وتبصيرها بعظمتها، وإقحامها في معارك زمنها، وتهيئتها للمدافعة، وتصل الشعر بالسياسة الدينية التي توجهت لها الخلافة يومئذ لتضرب فكرة أوروبا في تقسيم الدولة بفكرة الجامعة الإسلامية ولا يخرج لك شوقي من هذا التفسير على أنه رجل في قدر نفسه، بل في قدر أميره ذلك؛ وكان ممتلئًا شبابًا يغلي غليانًا، ومعدًا يوميذ لمطامع بعيدة ملفقة حشوها الديناميت السياسي ...
كنت ذات مرة أكلم صديقي الكاتب العميق فرح أنطون صاحب "الجامعة" وكان معجبًا بشوقي إعجابًا شديدًا، فقال لي: إن شوقي الآن في أفق الملوك لا في أفق الشعراء! قلت: كأنك نفيته من الملوك والشعراء معًا؛ إذ لو خرج من هؤلاء لم يكن شيئًا، ولو نفذ إلى أولئك لم يعد شيئًا، إنما الرجل في السياسة الملتوية التي تصله بالأمير، هو مرة كوزير الحربية، ومرة كوزير المعارف.
وهذه السياسة التي ارتاض بها شوقي ولابسها من أول عهده، واتجه شعره في مذاهبها، من الوطنية المصرية، إلى النزعة الفرعونية، إلى الجامعة الإسلامية، فكانت بهذا سبب نبوغه ومادة مده الشعري هي بعينها مادة نقائصه؛ فلقد ابتلته بحب نفسه وحب الثناء عليها، وتسخير الناس في ذلك بما وسعته قوته، إلى غيرة أشد من غيرة الحسناء تقشعر كل شعرة منها إذا جاءها الحسن بثانية، وهي غيرة وإن كانت مذمومة في صلته بالأدباء الذين لذعوه بالجمر ... ونحن منهم، غير أنها ممدوحة في موضعها من طبيعته هو؛ إذ جعلته كالجواد العتيق الكريم ينافس حتى ظله، فعارض المتقدمين بشعره كأنهم معه، ونافس المعاصرين ليجعلهم كأنهم ليسوا معه، ونافس ذاته أيضًا ليجعل شوقي أشعر من شوقي؛ وعندي أن كل