ما في هذا الرجل من المتناقضات فمرجعه إلى آثار تلك السياسة الملتوية التي ردت بطبيعة القوة عن وجوهها الصريحة، فجعلت تضطرب في وجوه من الحيل والأسباب مدبرة مقبلة، متهدية في كل مجاهلها بإبرة مغناطيسية عجيبة لا يشبهها في الطبيعة إلا أنف الثعلب المتجه دائمًا إلى رائحة الدجاج.
ومؤرخ الأدب الذي يريد أن يكتب عن شوقي لا يصنع شيئًا إن هو لم يذكر أن هذا الشاعر العظيم كان هدية الخديو توفيق والخديو عباس لمصر، كالدلتا بين فرعي النيل؛ وما أصابه المتنبي من سيف الدولة مما ابتعث قريحته وراش أجنحته السماوية وأضفى ريشها وانتزى بها على الغايات البعيدة في تاريخ الأدب أصاب شوقي من سمو الخديو عباس أكثر منه، فكان حقيقًا أن يساوي المتنبي أو يتقدمه، ولكنه لم يبلغ منزلته؛ لأن الخديو لم يكن كسيف الدولة في معرفته بالأدب العربي ورغبته فيه؛ وسر المتنبي كان في ثلاثة أشياء: في جهازه العصبي العجيب الذي لا يقل في رأيي عما في دماغ شكسبير، وفي ممدوحه الأديب الملك الذي ينزل من هذا الجهاز منزلة المهندس الكهربائي من آلة عظيمة يديرها بعلم ويقوم عليها بتدبير ويحوطها بعناية، ثم في أفق عصره المتألق بنجوم الأدب التي لا يمكن أن يظهر بينها إلا ما هو في قدرها، ولا يتميز فيها إلا ما هو أكبر منها، ولا يتركها كالمنطفئة إلا شمس كشمس المتنبي تتفجر على الدنيا بمعجزاتها النورانية.
ولقد -والله- كان هذا المتنبي كأنه يوزع الشرف على الملوك والرؤساء؛ وهل أدل على ذلك من أن أبا إسحاق الصابي شيخ الكتاب في عصره يراسله أن يمدحه بقصيدتين ويعطيه خمسة آلاف درهم، فيرسل إليه المتنبي: ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولكني إن مدحتك تنكر لك الوزير "يعني المهلبي" لأني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذا الحال فأنا أجيبك ولا أريد منك مالًا ولا من شعري عوضًا! فأين في دهرنا من تشعره عزة الأدب مثل هذا الشعور ليأتي بالشعر من نفس مستيقنة أن الدنيا في انتظار كلمتها؟
على أن شوقي لم يكن ينقصه باعتبار زمنه إلا "الجمهور الشعري"، وكل بلاء الشعر العربي أنه لا يجد هذا الجمهور، فالشاعر بذلك منصرف إلى معانٍ فردية من ممدوح عظيم أو حبيب عظيم أو سقوط عظيم ... حتى الطبيعة تظهر في الشعر العربي كأنها قطع مبتورة من الكون داخلة في الحدود لابسة الثياب؛ ومن ذلك ينبغ الشاعر وليس فيه من الإحساس إلا قدر نفسه لا قدر جمهوره، وإلا ملء حاجاته لا ملء الطبيعة؛ فلا جرم يقع بعيدًا عن المعنى الشامل المتصل بالمجهول، ويسقط