بشعره على صور فردية ضيقة الحدود، فلا تجد في طبعه قوة الإحاطة والتبسط والشمول والتدقيق، ولا تؤاتيه طبيعته أن يستوعب كل صورة شعرية بخصائصها، فإذا هو على الخاطر العارض يأخذ من عفوه ولا يحسن أن يتوغل فيه، وإذا هو على نزوات ضعيفة من التفكير لا يطول لها بحثه ولا يتقدم فيها نظره، وإذا نفسه تمر على الكون مرًّا سريعًا، وإذا شعره مقطع قطعًا، وإذا آلامه وأفراحه أوصاف لا شعور، وكلمات لا حقائق، وظل طامس ملقى على الأرض إذا قابلته بتفاصيل الجسم الحي السائر على الأرض.
واجتمع لشوقي في ميراث دمه ومجاري أعراقه عنصر عربي، وآخر تركي، وثالث يوناني، ورابع شركسي؛ وهذه كثرة إنسانية لا يأتي منها شاعر إلا كان خليقًا أن يكون دولة من دول الشعر، وإلى هذا ولد شاعرنا باختلاله العصبي في عينيه، كأن هذا دليل طبيعي على أن وراءهما عينين للمعاني تزاحمان عيني البصر؛ وما لم يكن التركيب العصبي في الشاعر مهيأ للنبوغ، فاعلم أنه وقع من تقاسيم الدنيا في غير الشعر، وليس في الطبيعة ولا في الصناعة قوة تجعل حنجرة البلبل في غير البلبل؛ ومع كل ما تقدم فقد أعين شوقي على الشعر بفراغه له أربعًا وأربعين سنة، غير مشترك العمل، ولا متقسم الخاطر، على سعة في الرزق وبسطة في الجاه وعلو في المنزلة، وبين يديه دواوين الشعر العربي والأوروبي والتركي والفارسي؛ وإن تنس فلا تنس أن شاعرنا هذا خص بنشاط الحياة، وهو روح الشعر لا روح للشعر بدونه، فسافر ورحل وتقلب في الأرض، وخالط الشعوب واستعرض الطبيعة يتخللها ببصره ما بين الأندلس والأستانة، وظهيره على ذلك ماله وفراغه، وإنما قوة الشعر في مساقط الجو، ففي كل جو جديد روح للشاعر جديدة؛ والطبيعة كالناس: هي في مكان بيضاء وفي مكان سوداء، وهي في موضع نائمة تحلم وفي موضع قائمة تعمل، وفي بلد هي كالأنثى الجميلة، وفي بلد هي كالرجل المصارع؛ ولن يجتمع لك روح الجهاز العصبي على أقواه وأشده إلا إذا أطعمته مع صنوف الأطعمة اللذيذة المفيدة، ألوان الهواء اللذيذ المفيد.
وعندي أنه لا أمل أن ينشأ لمصر شاعر عظيم في طبقة الفحول من شعراء العالم، إلا إذا أعيد تاريخ شوقي مهذبًا في رجل وهبه الله مواهبه، ثم تهبه الحكومة المصرية مواهبها.
والكتاب الأول الذي راض خيال شوقي وصقل طبعه وصحح نشأته الأدبية،