هو بعينه الذي كانت منه بصيرة حافظ وذكرناه في مقالنا عنه، أي كتاب "الوسيلة الأدبية" للمرصفي؛ وليس السر في هذا الكتاب ما فيه من فنون البلاغة ومختارات الشعر والكتابة، فهذا كله كان في مصر قديمًا ولم يغنِ شيئًا ولم يخرج لها شاعرًا كشوقي، ولكن السر ما في الكتاب من شعر البارودي؛ لأنه معاصر، والمعاصرة اقتداء ومتابعة على صواب إن كان الصواب، وعلى خطأ إن كان الخطأ؛ وقد تصرمت القرون الكثيرة والشعراء يتناقلون ديوان المتنبي وغيره، ثم لا يجيئون إلا بشعر الصناعة والتكلف، ولا يخلد الجيل منهم إلا لما رأى في عصره، ولا يستفتح غير الباب الذي فتح له، إلى أن كان البارودي، وكان جاهلًا بفنون العربية وعلوم البلاغة، لا يحسن منها شئًا، وجهله هذا هو كل العالم الذي حول الشعر من بعد؛ فيا لها عجيبة من الحكمة! وهي دليل على أن أعمال الناس ليست إلا خضوعًا لقوانين نافذة على الناس. وأكب البارودي على ما أطاقه، وهو الحفظ من شعر الفحول؛ إذ لا يحتاج الحفظ إلى غير القراءة، ثم المعاناة والمزاولة؛ وكانت فيه سليقة، فخرجت مخرج مثلها في شعراء الجاهلية والصدر الأول من الحفظ والرواية، وجاءت بذلك الشعر الجزل الذي نقله المرصفي بإلهام من الله -تعالى- ليخرج به للعربية حافظ وشوقي وغيرهما، فكل ما في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الأديب الناشئ، فتبعثه هذه الروح على التمييز وصحة الاقتداء، فإذا هو على ميزة وبصيرة، وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما في قوة نفسه ما دام فيه ذكاء وطبع؛ وبهذا ابتدأ شوقي وحافظ من موضع واحد، وانتهى كلاهما إلى طريقة غير طريقة الآخر، والطريقتان معًا غير طريقة البارودي.
تحول شوقي بهذا الشعر لا إلى طريقة البارودي، فإنه لا يطيقها ولا تتهيأ في أسبابه، وخاصة في أول عهده، وكأن لغة البارودي فيها من لقبه، أي فيها البارود ... ولكن تحول نابغتنا كان عن طريقة معاصريه من أمثال الليثي وأبي النصر وغيرهما، فترك الأحياء وانطلق وراء الموتى في دواوينهم التي كان من سعادته أن طبع الكثير منها في ذلك العهد: كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري، ثم أهل الرقة أصحاب الطريقة الغرامية: كابن الأحنف والبهاء زهير والشاب الظريف والتلعفري والحاجري، ثم مشاهير المتأخرين: كابن النحاس والأمير منجك والشرقاوي. وقد حاول شوقي في أول أمره أن يجمع بين هذا كله، فظهر في شعره تقليده وعمله في محاولة الابتكار والإبداع وإحكام التوليد، مع السهولة والرقة وتكلف الغزل بالطبع المتدفق لا بالحب الصحيح.