وأنا حين أكتب عن شاعر لا يكون همي إلا البحث في طريقة ابتداعه لمعانيه، وكيف ألم وكيف لحظ، وكيف كان المعنى منبهة له، وهل أبدع أم قلد، وهل هو شعر بالمعنى شعورًا فخالط نفسه وجاء منها، أم نقله نقلًا فجاء من الكتب؛ وهل يتسع في الفكرة الفلسفية لمعانيه، ويدقق النظرة في أسرار الأشياء، ويحسن أن يستشف هذه الغيوم التي يسبح فيها المجهول الشعري ويتصل بها ويستصحب للناس من وحيها؛ أم فكره استرسال وترجيم في الخيال وأخذ للموجود كما هو موجود في الواقع؟ وبالجملة هل هو ذاتية تمر فيها مخلوقات معانيه لتخلق فتكون لها مع الحياة في نفسها حياة من نفسه، أم هو تبعية كالسمسار بين طرفين: يكون بينهما، وليس منهما ولا من أحدهما؟ في هذه الطريقة من البحث تاريخ موهبة الشاعر، ولا يؤديك إلى هذا التاريخ إلا ذلك المذهب إليه إن أطقته، أما تاريخ الشاعر نفسه فما أسهله؛ إذ هو صورة أيامه وصلته بعصره، وليس في تأريخ ما كان إلا نقله كما كان.
وإذا عرضنا شوقي بتلك الطريقة رأيناه نابغة من أول أمره، ففيه تلك الموهبة التي أسميها حاسة الجو؛ إذ يتلمح بها النوابغ معاني ما وراء المنظور، ويستنزلون بها من كل معنى معنى غيره.
انظر أبياته التي نظمها في أول شبابه وسنه يومئذ ٢٣ سنة على ما أظن، وهي من شعره السائر:
خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء
ما تراها تناست اسميَ لما ... كثرت في غرامها الأسماء
إن رأتني تميل عني كأن لم ... تك بيني وبينها أشياء
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
دع غلطته في قوله "تميل عني"١، فإن صوابها: تمل؛ إذ هي جواب إن الشرطية؛ ولكن تأمل كيف استخرج معانيه؛ وأنا كنت دائمًا وما أزال معجبًا بالبيتين الثاني والرابع، لا إكبارًا لمعناهما، فهما لا شيء عندي، ولكن إعجابًا بموهبة شوقي في التوليد، فإنه أخذ البيت الثاني من قول أبي تمام:
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزحام
فمر المعنى في ذهن شوقي كما يمر الهواء في روضة، وجاء نسيمًا يترقرق
١ انظر المساجلات بين الرافعي والعقاد في هذه القولة بالمقتطف.