للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حرب الذي جعل الشاعر يرقعه ثم يرقعه حتى ذهب الطيلسان وبقيت الرقع.... والبيت الأول من العين النادر، ولكن أفسده في الباقي سوء ملكة الحرص في شوقي، أو ضعف الحس البياني، أو ابتذاله الشعر في غير موضعه، أو وهن فكرته الفلسفية من جوانب كثيرة؛ وهذه الأربعة هي الأبواب التي يقتحم منها النقد على شعر صاحبنا، ولو هو كان قد حصنها بأضدادها لكان شاعر العربية من الجاهلية إلى اليوم، ولكان عسى أن ينقل الشعر إلى طور جديد في التاريخ؛ ولكن الفوضى وقعت في شوقي من أول أمره؛ فأرسل إلى أوربا لدرس الحقوق وكان الوجه أن يرسل لدرس الآداب والفلسفة، وغامر في سياسة الأرض، وكان الحق أن يشتغل بسياسة السماء، وتهالك في مادة الدنيا، وكان الصواب أن يتهالك في معانيها.

إن الفوضى ذاهبة مذاهبها في الأدب والشعر، فكل شاعر عندنا كمؤلف يضع رواية ثم يمثلها وحده وعليه أن يمثلها وحده، فهو يخرج على النظارة في ثياب الملك فيلقى كلامًا ملكيًّا، ثم ينفتل فيجيء في ثواب القائد فيلقى كلامًا حربيًّا، ثم ينقلب فيعود في هيئة التاجر فيلقى كلامًا سوقيًّا، ثم يروح فيرجع في مباذل الخادم، ثم.. ثم.. يتوارى فيظهر في جلدة بربري.. وهذه الفوضى التي أهملتها الحكومة وأهملها الأمراء والكبراء هي حقيقة مؤلمة، ولكن هي الحقيقة!

وشوقي على كل هذا هو شوقي: أول من احتفى بتاريخ مصر من الشعراء، وأول من توسع في نظم الرواية الشعرية فوضع منها ست روايات، وهو صاحب الآيات البديعة في الوصف، وهذه الناحية هي أقوى نواحيه، ولقد ألهمتني قراءة البارع من شعره في أغراضه وفنونه المختلفة أن الله تعالى ينعم على الآداب الجميلة بأفراد ممتازين في جمال أرواحهم وقوتها، تجد الآداب لذتها فيهم وسموها بهم، كأن الأمر قياس على ما يقع من عشق الناس لبعض المعاني، فيكون في المعاني ما يعشق بعض الناس، ومتى بلغ عشق المعنى لإنسان مبلغ الاختصاص والوجد ظهر الفن أبدع ما يرى، كأن المعنى الأدبي يتجمل ويتحبب ليستميل هذا الإنسان الحاكم عليه حكم الحب.

فيا مصر، لقد مات شاعرك الذي كان يحاول أن يخرج بالجيل الحاضر إلى الزمن الذي لم يأت بعد، فإذا جاء هذا الزمن الزاخر بفنونه وآدابه العالية، وذكرت مجد شعرك الماضي، فليقل أساتذتك يومئذ: كان هذا الماضي شاعرًا اسمه شوقي!

<<  <  ج: ص:  >  >>