ولهذا المعنى كان الشعراء النوابغ في كل مجتمع هم كالحواس لهذا المجتمع.
ومن سخيف الإغراق في شعر شوقي قوله في رثاء مصطفى باشا كامل، وهي أبيات يظن هو أنه أوقع كلامه فيها موقعًا بديعًا من الإغراب:
فلوَ ان أوطانًا تصور هيكلًا ... دفنوك بين جوانح الأوطان
أو كان يحمل في الجوارح ميت ... حملوك في الأسماع والأجفان
أو كان للذكر الحكيم بقية ... لم تأتِ بعدُ رثيت في القرآن
فهذه فروض فوق المستحيل بأربع درجات ... وتصور أنت ميتًا يحمل في الجوارح فيترمم فيها ويبلى ... وما زال الشاعر في أبياته يخرج من طامة إلى طامة، حتى قال: رثيت في القرآن، ولو سئلت أنا إعراب "لو" في هذه الأبيات لقلبت: إنها حرف نقص وتلفيق وعجز ... وكيف يسوغ في الفرض أن تكون للقرآن بقية لم تنزل، والله تعالى يقول فيه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: ٣] ؛ والأمر أمر دين قد تم، وكتاب مقدس ختم، ونبوة انقضت؛ والشاعر ماضٍ في غفلته لم يتنبه لشيء ولم يدر أنه يفرض فرضًا بهدم الإسلام كله، بل حسب أنه جاء بخيال وبلاغة فارسية؛ وشوقي في الحقيقة كامل كناقص، وإن من معجزات هذا الشاعر أن يكون ناقصًا هذا النقص كله ويكمل.
وفي الشوقيات صفحات تكاد تغرد تغريدًا، وفيها صفحات أخرى تنق نقيق الضفادع؛ وفي هذا الديوان عيوب لا نريد أن نقتصها؛ فإن ذلك يحتاج إلى كتاب برأسه إذا ذهبنا نأتي بها ونشرح العلة فيها ونخرج الشواهد عليها، ولكن من عيوبه في التكرار أن له بيتًا يدور في قصائده دوران الحمار في الساقية، وهو هذا البيت:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
بل هذا البيت:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن تولت مضوا على آثارهما قدما
بل هو هذا:
كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم ... ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب
بل هو هذا البيت:
ولا المصائب إذ يرمي الرجال بها ... بقاتلات إذا الأخلاق لم تصب
وقد تكرر "فيما قرأته من ديوانه" ثلاث عشرة مرة، فعاد المعنى كطيلسان ابن