للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في النفس ويحيله إلى صناعة هي شر من الصناعة البديعية؛ لأن هذه تكون في والألفاظ؛ والألفاظ تحتمل العبث البديعي ويخرج بها الأمر إلى أن يكون ضربًا من الرياضة كمعاناة بعض المسائل في الجبر والهندسة تركيبًا وحلًا؛ ولكن المعاني لا تحتمل ذلك؛ إذ هي تفكير لا يلتوي إلا فسد، والمعاني التي يأتي بها الشاعر يجب أن تكون فيها مزية بخاصتها من الجمال والبيان، وأن تكون أخيلتها هي الحقائق التي أول مواضعها فوق حقائق البشر.

وهناك ضرب آخر من المبالغة يجيء من سقوط الخيال؛ لأن في الأسفل مبالغة كما في الأعلى، وإن كانت مبالغة الأسفل زيادة في السخرية منه والهزء به؛ وهذه المبالغة تأتي من جمع أشتات مختلفة وإدماجها كلها في معنى واحد، كهذا الذي حاول أن يدمج الطبيعة كلها في حبيبته فزعم أن فيها من كل شيء، ونسي أن كل قبيح وكل بغيض هو من كل شيء ...

إن الخيال الشعري يزيغ بالحقيقة في منطق الشاعرلا ليقبلها عن وضعها ويجيء بها ممسوخة مشوهة، ولكن ليعتدل بها في أفهام الناس ويجعلها تامة في تأثيرها؛ وتلك من معجزاته؛ إذ كانت فيه قوة فوق القوة عملها أن تزيد الموجود وجودًا بوضوحه مرة وبغموضه أخرى.

ولعلماء الأدب العربي كلمة ما أراهم فهموها على حقها ولا نفذوا إلى سره؛ قالوا: أعذب الشعر أكذبه؛ يعنون أن الشعر المبالغة والخيال: ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك، وما وراءه إلا الحقيقة رائعة بصدقها وجلالها؛ وفلسفة ذلك أن الطبيعة كلها كذب على الحواس الإنسانية، وأن أبصارنا وأسماعنا وحواسنا هي عمل شعري في الحقيقة؛ إذ تنقل الشيء على غير ما هو في نفسه؛ ليكون شيئًا في نفوسنا، فيؤثر بها أثره جمالًا وقبحًا وما بينهما؛ وما هي خمرة الشعر مثلًا؟ هي رضاب الحبيبة؛ ولكن العاشق لو رأى هذا الرضاب تحت المجهر لرأي.. لرأى مستنقعًا صغيرًا. ولو كان هذا المجهر أضعاف الأضعاف مما يجهر به لرأيت ذلك الرضاب يعج عجيجًا بالهوام والحشرات التي لا تخفى بنفسها ولكن أخفاها التدبير الإلهي بأن جعل رتبتها في الوجود وراء النظر الإنساني، رحمة من الله بالناس؛ فأعذب الشعر ما عمل في تجميل الطبيعة كما تعمل الحواس الحية بسر الحياة؛


١ يعني قول العقاد في وحي الأربعين:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود توام

<<  <  ج: ص:  >  >>