ولقد ظهر لي من درس شوقي في ديوانه أمر عجبت له؛ فإني رأيته يأخذ من أبي تمام والبحتري والمعري وابن الرومي وغيرهم؛ فربما ساواهم وربما زاد عليهم، حتى إذا جاء إلى المتنبي وقع في البر وأدركه الغرق؛ لأنه نشأ على رهبة منه كما تشير إليه عبارته في مقدمة ديوانه الأول؛ وقد وصف خيل الترك في قصيدة أنقرة بقوله:
والصبر فيها وفي فرساها خلق ... توارثوه أبًا في الروع بعد أب
كما ولدتم على أعرافها ولدت ... في ساحة الحرب لا في باحة الرحب
وشعره هذا كله يرتعد أمام قول المتنبي:
أقبلتها غرر الجياد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها
الثابتين فروسة كجلودها ... في ظهرها، والطعن في لباتها
فكأنها نتجت قيامًا تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها
فانظر أين صناعة من صناعة وأين شعر من شعر؟ وقال في "صدى الحرب" يصف مدافع الدردنيل:
قذائف تخشى مهجة الشمس كلما ... علت مصعدات أنها لا تصوب
إذا هب حاميها على السفن انثنت ... وغانمها الناجي فكيف المخيب
وهذا الاستفهام "فكيف المخيب" استفهام مضحك؛ لأنه إذا كان الناجي غانمًا، فالمخيب خاسر بلا سؤال ولا فلسفة؛ والكلمة الشعرية في هذا كله هي قوله "وغانمها الناجي"، وهي كالهاربة تتوارى خوفًا من بيت أبي الطيب:
أغر أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكبروا الذي فعلوا
فهذا هو الشعر لا ذاك؛ على أني أشهد أن في قصيدة "صدى الحرب" أبياتًا هي من أسمى الشعر، وكأن شوقي -رحمه الله- كان ينظم هذه القصيدة من إيمانه ومن دمه ومن كل مطامع دنياه وآخرته، يبتغي بها الشهرة الخالدة في الناس، والمنزلة السامية عند الخديو، ونباهة الشأن عند الخليفة، والثواب عند الله تعالى؛ ولو هو في أثناء عملها أسقط نصفها أو أكثر لجاءت فريدة في الشعر العربي، غير أن الحرص كان يغتره، وكان طول عمره مفتونًا بشعره؛ فجاء في هذا الشعر بالطم والرم كما يقولون؛ وله كثير من الكلام الرذل الساقط بضعفه وتهافته؛ ولولا تلك التركية الفارسية وضعفه البياني، لما رضي أن يكون ذلك في شعره؛ وليت شعري كيف غاب عن مثله أن التهويل والإغراق والإحالة مما يهجن الشعر ويذهب بأثره