للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإن في شوقي عيبين يذهبان بكثير من حسناته: أحدهما المبالغات التركية الفارسية مما تنزعه إليه تركيته ولا مبالغة في الدنيا تقاربها، كقول بعض شعرائهم إن النملة بزفرتها جففت الأبحر السبعة ... وهو إغراق سخيف لا يأتي بخيال عجيب كما يتوهمون، بل يأتي بهذيان عجيب؛ وإذا كان الصدق يأنف من الكذب، فإن الكذب نفسه يأنف من هذا الإغراق؛ ومن هذه التركية في شوقي إضافات وهمية، هي من تلك المبالغات كذيل الحمار من الحمار: قطعة فيه ودليل عليه وآخر لأوله ولا محل لها في ذوق البلاغة العربية، كقوله:

عيسى الشعور إذا مشى ... رد الشعوب إلى الحياة

وقوله في سعد باشا في حادثة الاعتداء عليه:

ولو زلت غيب "عمرو الأمور" ... وأخلى المنابر سحبانها

ويدخل في جنايات هذه التركية على شعره تكراره الأسماء المقدسة والأعلام التاريخية: كيوشع وعيسى وموسى وخالد وبدر وسيناء وحاتم وكعب وغيرها مما هو شائع في نظمه ولا تجده أكثر ما تجده إلا ثقيلًا مملولًا؛ ولهذه الألفاظ عندنا فلسفة لا محل لها الآن، فهي أحيانًا تكون السحر كله والبلاغة كلها، على شرط أن يكون القلب هو الذي وضعها في موضعها، وأن لا يضعها إلا على هيئة قلبية، فيكون كأنه وضع نفسه في الشعر ليخفق خفقانه الحي في بضعة ألفاظ، وهذا ما لم يحسنه شوقي -والعيب الثاني أن ألفاظ شاعرنا يثبت أكثرها على النقد؛ لضعفه في الصناعة البيانية، ثم لضعف الموهبة الفلسفية فيه واعتباره التهويل شعرًا والمبالغة بلاغة وإن فسدت بهما البلاغة والشعر؛ انظر إلى قوله من قصيدته الشهيرة ٢٨ فبراير:

قالوا: الحماية زالت قلت لا عجب ... قد كان باطلها فيكم هو العجبا

رأس الحماية مقطوع فلا عدمت ... كنانة الله حزمًا يقطع الذنبا

قلنا: فإذا قطع "رأس الحماية" وبقيت منها بقية ما ذنب أو يد أو رجل؛ فإن هذه البقية في لغة السياسة التي تنقذ الألفاظ وحروفها ونقط حروفها ... لن تكون ذنبًا ولا يدًا ولا رجلًا، بل هي "رأس الحماية" بعينه.... على أن شوقي إنما عكس قول الشاعر:

لا تقطعنْ ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنبا

وهذا كلام على سياقه من العقل، فما غناء قطع ذنب الأفعى إذا بقي رأسها، وإنما الأفعى كلها هي هذا الرأس.

<<  <  ج: ص:  >  >>