بها المتوكل، وكان المهلبي حاضرًا قتله هو والبحتري، فرثاه كل منهما بقصيدة قالوا: إنها من أجود ما قيل في معناهما؛ وبيت شوقي مأخوذ من قول المهلبي:
إنا فقدناك حتى لا اصطبار لنا ... ومات قبلك أقوام فما فقدوا
أي لم يحس موتهم أحد؛ ولكن البيت غير مستقيم؛ لأن الذي يموت فلا يفقد هو الخالد الذي كأنه لم يمت؛ فاستخرج شوقي المعنى الصحيح وجعل العدم الذي هو آخر الوجود في الناس، أول الوجود ووسطه وآخره في هؤلاء الذين هانوا على الحياة فوُجدوا وماتوا كأنهما ماتوا وما وجدوا.
وإلى ما علمت من قوة هذه الشاعرية، ودقتها فيما تتأتى له، ومجيئها بالمعاني النادرة مستخرجة استخراج الذهب، مصقولة صقل الجوهر، معدلة بالفكر، موزونة بالمنطق- تجد لها تهافتًا كتهافت الضعفاء، وغرة كغرة الأحداث؛ حتى لتحسب أن طفولة شوقي كثيرًا ما تنبعث في شعره لاعبة هازلة، أو كأن للرجل شخصيتين كما يقول الأطباء، فهما تتعاوران شعره كمالًا ونقصًا، وعلوًا ونزولًا، أو قل هي العربية واليونانية في ناحية من نفسه، والتركية والشركسية في ناحية أخرى: لتلك الابتكار والبلاغة والمنطق، ولهذه التهويل والمبالغة والخلط؛ وشوقي هو بهما جميعًا؛ تفتنه القوية منهما فيعجب بها إعجاب القوة، وتخدعه الضعيفة فيعجب بها إعجاب الرقة؛ ما أعجب بيته الذي قاله في الحنين إلى الوطن من قصيدته الأندلسية الشهيرة:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهذا البيت مما يتمثل به الشبان وكتاب الصحافة، ولم يفطن أحد إلى فساده وسخافة معناه؛ فإن الخلد لا يكون خلدًا إلا بعد فناء الفاني من الإنسان وطبائعه الأرضية، وبعد أن لا تكون أرض ولا وطن ولا حنين ولا عصبية؛ فكان شوقي يقول: لو شغلت عن الوطن حين لا أرض ولا وطن ولا دول ولا أمم ولا حنين إلى شيء من ذلك- فإني على ذلك أحن إلى الوطن الذي لا وجود له في نفسي ولا في نفسه.... وهذا كله لغو ... والمعنى بعد من قول ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهموا ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو ... عهود الصبي فيها فحنوا لذلكا
ومنازعة النفس هي الحنين، ومعنى ابن الرومي وإن كان صحيحًا غير أنه لا يصلح لفلسفة الوطنية في زمننا.