التاريخ، أو ينشأ كون صغير من أكوان الحضارة في الشرق كبنك مصر، أو ترتج زلزلة في الحياة العربية أينما ارتجت، فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتين: إحداهما في ذهن شوقي، فيرسل قصيدته الشرود السائرة داوية مجلجلة، فلا تكاد تظه رفي مصر حتى تلتقي حولها الأفكار في العالم العربي كله، فتكون شعرًا من أسرى الشعر وأحسنه، ثم تجاوزه فإذا هي صلة من أقوى الصلات الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها، ثم تجاوزها فإذا هي عاطفة تجمع القلوب على معناها، ثم تسمو فوق هذا كله فإذا هي من هذا كله زعامة مصر على الشعر العربي.
واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشعرية من هنا وثم ملونة منتفخة ماضية على قانون الفقاقيع في الطبيعة، من أن لحظة وجودها هي لحظة فنائها، وأن ظهورها يكون لتظهر فقط لا لتنفع.
ولست أماري في أن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر، ولهم فكر وبيان ومذهب وطريقة: ولكن ما منهم أحد إلا وهو يشعر من ذات نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شوقي، وأنه في الحياة كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه، وأن يخرج له التقليد؛ فهو ينتظر وسينتظر.
وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل الدنيا بين العبقري الفذ وبين من يشبهونه أو ينافسونه -بضروب خفية من الصرفة والعوائق، لا هي كلها من قوة العبقري، ولا هي كلها من عجز الآخرين.
وأعجب من ذا أن "شوقي" كان في العالم العربي كأنه عمل تاريخي متميز من أعمال مصر، غير أنه مسمى باسم رجل؛ وكان على الحقيقة لا على المجاز- كأن فيه شيئًا من هذه الروح التاريخية المتغلبة التي تخلد بأسماء الآثار الفنية وتكسبها العظمة في الوجودين: من محلها ومن نفس الإنسان.
وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعرًا عربيًا يحسن في وصف الآثار المصرية ما يحسن في وصفها شعر شوقي، حتى لأسأل نفسي: هل تختار بعض الأشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها، كما تختار المرأة الجميلة عاشقها ومستجلي حسنها؟
وما بان شوقي على غيره إلا بأنه رجل أفرغ في رأسه الذهن الشعري الكبير، فكان في رأسه مصنع عماله الأعصاب، ومادته المعاني، ومهندسه الإلهام؛ والدنيا