ترسل إليه وتأخذ منه؛ وعلامة ذلك من كل شاعر عظيم أن تضع دنياه على اسمه شهادتها له؛ ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن اسمه في وزن اسم مملكة، فإذا قلت: شكسبير وانجلترا، فهما في العظمة النفسية من وزن واحد، وكذلك المتنبي والعالم العربي، وكذلك شوقي ومصر.
قالوا: كان الفرزدق ينقح الشعر، وكان جرير يخشب "أي يرسل شعره كما يجيء فلا يتنوق فيه ولا ينقحه"؛ وكان خشب جرير خيرًا من تنقيح الفرزدق ولم يتنبه أحد إلى السر في ذلك؛ وما هو إلا السر الذي كان في شوقي بعينه، سر الامتلاء الروحي قد أُمد بالطبع، وأعين بالذوق، وأوتي القوة أن يتحول بآثاره في الكلام؛ فكل ما كان منه فهو منه: يجيء دائمًا قريبًا بعضه من بعضه، ولا يكاد ينفذ إلى شعور إلا اتحد به.
وقد كان عمرو بن ذر الواعظ البليغ* إذا تكلم في مجلسه نشر حوله جوًّا من روحه، فيجعل كل ما حوله يتموج بأمواج نفسية؛ فكان كلامه يعصف بالناس عصف الهواء بالبحر يقوم به ويقعد، وكان من الوعاظ من يقلده ويحكيه ولا يدري أنه بذلك يعرض الغلطة على ردها وصوابها، فقال بعض من جالسه وجالسهم: ما سمعت عمرو بن ذر يتكلم إلا ذكرت النفخ في الصور، وما سمعت أحدًا يحكيه إلا تمنيت أن يجلد ثمانين..
فالفرق روحاني طبيعي كما ترى، لا عمل فيه لأحد ولا لصاحبه، وهو يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسيم من الريح يرسلان على جهتين في البحر؛ ففي ناحية يلتج الماء ويثب ويتضرب ويقصف قصف الرعد، وفي الأخرى يترجرج ويتزحف ويقشعر ويهمس كوسواس الحلي.
والشأن كل الشأن للكمية الوجدانية في النفس الشاعرة أو الممتازة، فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجه ما، وتهيئها لما يراد منها بقدر ما، وتقيمها على دأبها إلى زمن ما، وتخصها بخصائصها لغرض ما؛ وإذا أنت حققت لم تجد الفروق بين النوابغ بعضهم من بعض إلا فروقًا في هذه الكمية ذاتها مقدارًا من مقدار؛ ولولا ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشعراء؛ فقد يكون الشاعر كأنه تلميذ في العلم، ثم يكون العلم كأنه تلميذ لقلب هذا الشاعر وعواطفه؛ ولئن عجز النقد العلمي أن ينال من الشاعر العبقري، لقديمًا عجز في كل أمة.
* هو عمر بن ذر الهمذاني الكوفي المتوفى سنة١٥٦ للهجرة وكان من أبلغ المتكلمين.